غالِبٌ ومَغلُوب

بقلم د. هيكل الراعي*

العلاقات بين الطوائف والأحزاب و”الشعوب” اللبنانية تقوم على نزاعات وأزمات دائمة تتخلّلها هدنات وتسويات مؤقتة تقوم دائماً على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب” بين أطراف الصراع، وهي قاعدة اعتُمِدت منذ زمن طويل لتسوية النزاعات والخلافات.

لكن هل يُمكن القول فعلاً أنه لا يوجد غالبٌ ولا مغلوبٌ بعد كل ما جرى في لبنان خلال العقود الخمسة الماضية؟

بالطبع لا وألف لا. فهناك غالبٌ وهناك مغلوبٌ.

الغالبُ هو الطبقة السياسية بكل تلاوينها وانتماءاتها. هذه الطبقة التي تحتكر الحياة السياسية وتمنع أي تجديد أو تغيير أو تطوير فيها. الغالبُ هو هذه المجموعة من السياسيين (نواب، وزراء، مسؤولو أحزاب …) التي تحتل المنابر والشاشات وموجات الأثير مُبشّرة ليل نهار بفضائل الديموقراطية وممارسةً عكسها. الغالبُ هو هذه الطبقة التي تتخاصم وتتصارع وتتقاتل بدماء اللبنانيين. الغالبُ هو هذه المجموعة التي تُنادي بالحرية والسيادة والإستقلال والدفاع عن الوطن قبل أن تتوجّه الى سفارات الدول شقيقة أو صديقة، إقليمية أو دولية، لتلقّي التعليمات والتوجيهات. الغالبُ هو هذه الطبقة التي تتشاتم بأقذع العبارات فتُرهق أعصاب المواطنين بخلافاتها (التافهة بعض الأحيان) سارقة النوم من عيون الأطفال خوفاً من نار اقترب اشتعالها، قبل أن تتصالح وتتعانق وكأن شيئاً لم يكن. الغالبُ هو هذه المجموعة من السياسيين الذين يتوارثون السلطة والمراكز مع العقارات والشركات والأموال، والذين أحاطوا أنفسهم بهالة من القدسية المصطنعة، رغم موبقاتهم، بحيث تصعب محاسبتهم أو سؤالهم عن فساد ونهب ارتكبوه أو عن جرائم نظَّموها. هذه الطبقة هي الغالبة لأنها تراهن، وتربح دائماً الرهان، بأن اللبنانيين لا يُحاسِبون.

والمغلوبُ هو لبنان الوطن والناس. المغلوبُ هو لبنان الحضارة والفكر والإبداع. المغلوبُ هو “الوطن الرسالة” الذي جُرِحَت سمعته عندما أصبحت “اللبننة” عنواناً للتقاتل والتذابح والتفجير والتدمير وكل أنواع العنف. لبنان هو المغلوب لأن الذين حلموا به وأوجدوه وبذلوا من أجله المُهَج والأرواح، لم يخطر ببالهم أنه سيُحكَم يوماً من مجموعة طلّقت وهجرت القيم والمبادىء الوطنية لتستوطن الصفقات والمصالح الضيّقة. فلبنان، موطن الحَرف، أنزله سياسيوه الى وحول التاريخ حيث أصبح يُذكَر مع الدول الأكثر تخلّفاً وفساداً وهمجية.

المغلوبُ هو الشعب اللبناني، هو المواطن المجروح في كرامته والذي يُعاني الفقر والذل والحرمان نتيجة ممارسات سياسييه. المغلوبُ هو هذا المواطن الذي صدّق الشعارات البرّاقة التي رفعها السياسيون فضحّى بعائلته وأولاده وأملاكه من أجل “قضية” ليكتشف أن مقابل القصور التي تُبنى والثروات التي تُكدَّس في مصارف خارجية والطائرات الخاصة المركونة في المطار، هناك مصانع تُقفَل وأراض تَبور وآلاف الشباب من حاملي الشهادات يقفون على أبواب السفارات طلباً للهجرة بحثاً عن فرص عمل. هذا المواطن المسحوق جسدياً ونفسياً نتيجة خلافات ومصالحات وأحقاد سياسييه هو الذي يدفع الثمن، وهو الذي يجب عليه ان ينتفض ويسأل ويُحاسب: لماذا ولمصلحة مَن حَدَثَ ويحدث ما يحدث؟ والى أين يأخذون لبنان؟

  • باحث وأستاذ جامعي لبناني ومدير عام سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى