لبنان لن يُنقَذ إلّا بعقدٍ إجتماعيٍّ جديد وعملية سياسية تُعيد بناء الثقة في النظام

يبدو أن النظام السياسي في لبنان الذي نشأ بعد الحرب الأهلية على أساس إتفاق الطائف في تسعينات القرن الفائت قد وصل إلى طريق مسدود، وهو يكافح راهناً ضد صدمات مُتزامنة، لذا بات البلد بحاجة ماسة إلى عقد إجتماعي جديد وعملية سياسية تُعيد الثقة في النظام.

حكومة حسان دياب الجديدة: الأزمة اللبنانية أكبر من قدراتها

 

بقلم مهى يحيى*

شُكِّلَت أخيراً في لبنان حكومة جديدة، وهي تواجه معركة شاقة لمعالجة تحديات إقتصادية وسياسية حادة ومهمة، حيث سيكون نجاحها حاسماً بالنسبة إلى إنعاش البلد وديمومته.

وتهب على لبنان عاصفة شاملة تكتسب المزيد من القوة مع مرور الوقت. البلاد في خضم انهيار إقتصادي، يُفاقمه جمود سياسي، وتلفّها أزمة شرعية أوسع لأن جزءاً كبيراً من السكان فَقَدَ الثقة في قيادته السياسية. إن النظام اللبناني لم يعد يعمل بفعالية. وما لم يتم الإتفاق على عقدٍ إجتماعي جديد بين المواطنين والدولة، فقد ينحدر البلد إلى الفوضى.

إن أولوية حكومة رئيس الوزراء حسّان دياب الجديدة هي إبطاء ووقف التراجع الإقتصادي والمالي للبنان. للقيام بذلك، يجب أن تُعالِج أزمات عدة في وقت واحد. نظراً إلى أن الدين العام يُقَدَّر بنحو 150 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، يجب على الحكومة السيطرة على الإنفاق وإيجاد طرق لسداد ديونها. لن يكون هذا سهلاً لأن عجز ميزان المدفوعات، مدفوعاً بعجز تجاري دائم، من المتوقع أن يصل إلى 8 مليارات دولار في نهاية العام 2020. ومما يزيد الطين بلّة أن هذا الركود العميق في البلاد قد وصل إلى الإيرادات الحكومية، لذلك في العام 2020، يتوقّع الإقتصاديون عجزاً في الموازنة يبلغ نحو 3 مليارات دولار، باستثناء مدفوعات الفائدة.

بالتوازي مع ذلك، أثّرت الأزمة في النظام المصرفي في المالية العامة. على مدار الـ27 سنة الماضية، تمّ استخدام الدولار الأميركي والليرة اللبنانية بالتبادل في الإقتصاد. ولكن اليوم، مع استثمار ما يقرب من نصف الأصول المصرفية في الديون السيادية للبلاد ومع البنك المركزي، ومع ربعٍ آخر يُمثّل مطالبات القطاع الخاص الخطرة، فإن البنوك لا تملك السيولة المطلوبة فعلياً وقد يكون بعضها مُعسَّراً. لقد توقفت عن ممارسة معظم النشاط المصرفي العادي، وبالتالي فإنها بنوكٌ بالإسم فقط. على الرغم من الضوابط التي وُضِعَت أخيراً على الفوضى ورأس المال غير الكافي والمصارف، إلّا أن القطاع ما زال يشهد عمليات ودائع. في العادة، يوفر البنك المركزي السيولة للبنوك، ومع ذلك، فهي مُقَيَّدة اليوم بسبب العرض المحدود بالدولار الأميركي والمخاوف من أنه إذا تم تعويضه من طريق ضخ الليرة اللبنانية في الإقتصاد، فإن هذا سوف يزيد من انخفاض العملة المحلية.

وكانت النتيجة مُدَمِّرة للبنانيين. منذ بداية الإحتجاجات في 17 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت واستقالة رئيس الوزراء السابق سعد الحريري في 29 تشرين الأول (أكتوبر)، ساءت الظروف الاجتماعية والاقتصادية أكثر. ضوابط رأس المال (capital controls) غير الرسمية والقيود المفروضة على السحوبات النقدية أثارت الذعر لأن الناس يحاولون الوصول إلى ودائعهم المُكتَسبة بصعوبة كبيرة وبشق الأنفس. وقد أدّى التراجع في منح خطوط الإئتمان (credit lines) إلى توقف الإقتصاد، مع توقعات بنمو سلبي في حدود 5 إلى 10 في المئة للعام 2020. الشركات والأعمال تُغلَق والبطالة في ارتفاع سريع. يُقال إن آلاف اللبنانيين فقدوا وظائفهم في الأشهر القليلة الماضية. في السوق الموازية، فقدت الليرة اللبنانية ما بين 30 إلى 40 في المئة من قيمتها وأصبح لبنان سريعاً إقتصاداً نقدياً.

أصبحت حالات الإفلاس وتزايد الفقر والإنخفاض العام في مستويات المعيشة من سمات الحياة بالنسبة إلى العديد من اللبنانيين. ويُعتَبَر اليوم حوالي 760 ألف شخص من الذين يُعانون من الفقر المُدقع، مما يعني أنهم يعيشون بأقل من 4 دولارات يومياً ولا يمكنهم الحصول على السعرات الحرارية الأساسية في اليوم. وأصبح النقص في السلع الأساسية وكذلك الوقود والأدوية أكثر وضوحاً، في حين انخفضت التدفقات المالية بشكل كبير. وذكر بعض التقارير أن سبعة أفراد قد انتحروا في الشهر الماضي كنتيجةٍ مباشرة للأزمة الإقتصادية.

إن أدوات وآليات المُعالجة لهذا الوضع الإقتصادي والمالي المأساوي موجودة. فقد حدّدت مجموعة مستقلة من المُتخصّصين في التنمية والإقتصاد والشؤون المالية اللبنانية أخيراً خطة للمساعدة على التغلب على الأزمات بطريقة تضمن المشاركة العادلة في الأعباء وحماية الفئات الأكثر ضعفاً. مرّت 151 دولة بأزمة مالية من نوعٍ ما منذ سبعينات القرن الفائت. من بين هذه الدول، هناك 2 في المئة فقط منها واجهت صدمات مالية عامة وعملة ومصرفية مُتزامنة كالتي يواجهها لبنان. ومن بين البلدان التي أعادت هيكلة ديونها، حصل معظمها على دعم دولي كافٍ للخروج والإقتراض مرة أخرى.

كيف يتعامل واضعو السياسات مع هذا التحدي؟ هناك حاجة إلى نهج شامل، حيث يتم تنفيذ سياسات مختلفة بالتوازي كجزء من استراتيجية أكبر. ومع ذلك، أقر البرلمان اللبناني الأسبوع الفائت موازنة للعام 2020 إفترضت إنخفاضاً كبيراً في خدمة الدين، من دون وجود خريطة طريق واضحة لكيفية تحقيق ذلك أو تقييم تأثيرها في تخفيض قيمة العملة والتضخم.

وهذا يتماشى مع الأنماط الحالية للسلوك السياسي في البلاد. على الرغم من الإحتجاجات والأزمة الإقتصادية الحادة، إستمر السياسيون في التملّص من المسؤولية، مُفَضّلين أجنداتهم الشخصية والسياسية على مصالح لبنان. إستغرق الأمر ثلاثة أشهر لتشكيل حكومة جديدة، والتي كانت واحدة من شأنها أن تُحافظ على تمثيلهم في النظام وحماية امتيازاتهم.

ومع ذلك، فإن هذه المأساة ليست فقط عن الحاضر. إنها أيضاً عن المستقبل وماذا يعني بالنسبة إلى الأجيال الشابة من اللبنانيين. إن الإجراءات قصيرة الأجل على الجبهة الإقتصادية ستصنع فقط تسوية يصعب التعامل معها وستُثقل كاهل أجيال من اللبنانيين الذين لم يُولَدوا بعد. سيظل العمل على الجبهتين الإقتصادية والمالية، رغم الحاجة الماسة إليه، غير كافٍ. ما أظهرته شهور من الإحتجاجات من جانب شريحة واسعة من المجتمع هو أن لبنان بحاجة إلى عقدٍ إجتماعيٍّ جديد وعملية سياسية جديدة.

بالإضافة إلى تدهور الأوضاع الإقتصادية، هناك أزمة شرعية عميقة تدفع الناس إلى الشوارع للتنديد بطبقتهم الحاكمة والحكومة التي شكّلتها. دعا المتظاهرون إلى انتخابات برلمانية مُبكرة ورئيس جمهورية جديد. وبالقيمة الإسمية، فإن ما يدفع هذه المطالب هو عدم الثقة في معظم مؤسسات الدولة، بما فيها الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية والبنوك وأجهزة الأمن ووسائل الإعلام والنقابات والإتحادات العمالية.

إن إستطلاعات الرأي تُوَضَّح هذا المزاج بشكل جلي. في العام 2018، وجد استطلاعٌ للرأي أجراه مركز “بيو” للأبحاث الأميركي أن 77 في المئة من اللبنانيين قالوا إنهم لا يثقون في حكومتهم لفعل ما هو صحيح للبنان، بينما 84 في المئة يعتقدون أن الوضع الإقتصادي سيىء. كما أعربت غالبية من 80 إلى 85 في المئة عن عدم ثقتها في المؤسسات الرسمية، بما فيها البرلمان والأحزاب السياسية والحكومة. وتراجعت الثقة في القطاع المصرفي بينما يُستَقطَبُ الأفراد في كل ما يتعلق بخدمات الأمن. معظم وسائل الإعلام مملوكة مباشرة من سياسيين، في حين أن النقابات المهنية والإتحادات العمالية هي في الغالب مُسستَمالة من الطبقة السياسية.

الواقع أن جذور المشكلة تكمن في نموذجٍ سياسي واقتصادي تميّز به لبنان منذ استقلاله في العام 1943. سياسياً، كرّس اتفاقٌ وطني نظام تقاسم السلطة على أساس الهوية الطائفية. في الوقت نفسه، تم اعتبار لبنان جمهورية تجارية ذات اقتصاد توجّهه أساساً الخدمات ويستند إلى الركنين التوأمين: السرية المصرفية والسياحة.

تم التأكيد على هذا النموذج في تسعينات القرن الفائت، بعد الحرب الأهلية في لبنان، خلال مرحلة إعادة البناء والإعمار. وقد أدّت التسوية السياسية التي أنهت الحرب إلى مأسسة نموذج تقاسم السلطة الطائفي. إن الدور المُهيمن للسياسيين الطائفيين في زمن الحرب في فترة ما بعد الحرب كفل لهم فعلياً أن يتقاسموا الثروة الوطنية في ما بينهم لتغذية شبكات المحسوبية الخاصة بهم.

في موازاة ذلك، أدّى الدور البارز الذي أعطته سوريا ل”حزب الله”، القوة الرائدة في لبنان بين العامين 1990 و2005، إلى تحويل البلاد إلى مركزٍ لمقاومة “الحزب” ضد إسرائيل وحلفائها. بينما أُعيد بناء وسط بيروت، وتمّ تشكيله كمركز للترفيه، على بعد بضعة كيلومترات فقط من المكان الذي كان “حزب الله” يبني عسكره. أصبح الحزب اليوم مُدافعا حيوياً عن النظام الطائفي الفاسد ضد التغييرات التي يُطالب بها المتظاهرون، لأن النظام يحمي الحزب بشكل فعّال وأسلحته.

ويعكس هذان الجانبان من الشخصية الفصامية في لبنان – الجمهورية التجارية إلى جانب منظمة عسكرية تتبع أجندة مقاومة – التوازن الإقليمي المضطرب الذي كان قائماً في السنوات الأولى من فترة ما بعد الحرب. جسّد لبنان كمركز تجاري مفتوح للعالم العربي والغرب مصالح أحد رعاة تسوية ما بعد الحرب، المملكة العربية السعودية، والممثل الرئيس للمملكة في لبنان، رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. كما عكس لبنان كمركز “للمقاومة” مصالح إيران وسوريا، الراعي الإقليمي الثاني لاتفاقية إنهاء الحرب، حيث استفاد كلٌّ منهما لأسبابه الخاصة من السعي للصراع مع إسرائيل. اليوم، لم يعد هذا التفاهم الضمني قائماً وسط الخلاف السعودي مع إيران وسوريا.

الإنهيار الإقتصادي في لبنان هو مؤشر آخر على أن نموذج ما بعد الحرب قد وصل إلى نهايته. لقد انخفضت تدفقات رؤوس الأموال، ولا سيما تلك الواردة من الخليج، والتي دعمت إنفاق الدولة المستمر. ويُعزى ذلك جزئياً إلى انخفاض أسعار النفط الذي أثر في إيرادات المُغتربين اللبنانيين الذين يعيشون في الخليج، وأيضاً إلى الشعور العام بأن لبنان قد أصبح  قاعدة أماميةً إيرانية.

ما أصبح واضحاً أيضاً للبنانيين هو أن مشاكلهم الإقتصادية هي في الأساس عواقب أزمة حكم. لقد شجّع النظام الطائفي المُختَل وظيفياً ثقافة الفساد والهدر، مما سمح للطبقة السياسية نهب البلاد. خلق النظام بيئة من سوء المعاملة المتساوية من قبل النخبة في البلاد على حساب غالبية المواطنين. لم يكسب أي مجتمع نتيجة لهذا النظام حيث انخفضت مستويات المعيشة لجميع اللبنانيين. وفي الوقت عينه، لا يزال السياسيون ُيركّزون على تسجيل النقاط السياسية بينما تغوص البلاد في الهاوية، وهم حريصون على حماية مصالحهم الخاصة في نظام سياسي واقتصادي لم يعد بإمكانه تحمّل مثل هذا السلوك.

إن الأزمة المالية العميقة مثل تلك التي يواجهها لبنان اليوم تتطلب حلولاً طويلة الأجل تدعمها عملية سياسية تُعيد بناء الثقة في النظام. يجب أن يبدأ هذا بإجراء إنتخابات مُبكرة بناءً على قانون انتخابي موثوق يُعيد الشرعية البرلمانية. في موازاة ذلك، يجب إطلاق عملية وطنية لإعادة النظر في الإطار السياسي للبنان. يجب أن يكون هذا الإطار واحداً يشمل جميع اللبنانيين، وخصوصاً أولئك الذين خرجوا إلى الشوارع أو الذين يعتبرون أنفسهم مُهمَّشين سياسياً، حيث يُشعرهم بأن مخاوفهم يتم معالجتها. وبدون ذلك، لن يكون اللبنانيون ببساطة على استعداد لتحمّل آلام التعديلات الإقتصادية الضرورية بينما يجني قادتهم السياسيون فوائد نظام سياسي مشكوك فيه.

  • مهى يحيى هي مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط، حيث تركز أبحاثها على المواطنة والتعددية والعدالة الإجتماعية في أعقاب الانتفاضات العربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى