ساحةُ الشهداء قلبُ بـيروت الشاهد والشهادة

بقلم هنري زغيب*

 

ساحةُ الشهداء… ما سرُّها ساحة الشهداء؟

كُبرَيات الـملاحم العالـمية بطولتُها ذاكرةٌ لرجل أَو امرأَة، وكلاهـما يـموت في نهاية الملحمة مهما انتَصر.

أَمّا ذاكرةُ المكان فتبقى ولو انتهى رجلٌ فيه أَو رجال. يبقى التاريخُ ذاته شاهدًا عليه.

كانت “ساحةَ البرج”، ثم وسَـمَتْها مشانقُ 1916 “ساحةَ الشهداء”، ثم رسَـمَتْها مليونيةُ 2005 “ساحةَ الـحرية”، ثم نـحَـتَـتْها ثورةُ تشرين اللبناني “ساحةَ الاعتصام”.

إِنها، في تاريخ لبنان قديمه ووسيطه والحديث، بَطَلَةُ المكان. والبَطَلَةُ لا تموت. تبقى لها أَصداءُ وجوهٍ وأَحداثٍ وأَسماء، وتبقى ذاتَ الصوت الذي لا يزول. يبقى محفورًا على أَوتار الزمان شاهدًا ساطعًا دَويُّـهُ الصمت.

حين كتَب الروائيُّ اليوغوسلاﭬـي إِيـﭭـو إِنْدْرِتْش (1892-1975) رائعته “جسر على نهر دْرينا” (1945)، وكانت إِحدى نقاط استحقاقِه نوبل (1991)، لم يركِّز فقط على مُنشِئِه محمد باشا سوكولوﭬـيتش (1577) ولا على تَـهدُّمه بالقصف في الحرب العالـمية الأُولى، بل على ما شهِدَ من أَحداث تاريخية وإِنسانية طيلة أَربعة قرون، زالت جميعها وبقي الجسر ذاكرةَ المكان الذي استحقَّ أَن تُدرجَه منظمة الأُونسكو سنة 2007 على لائحة التراث العالـمي.

وحين انتصر ناﭘـوليون في معركة أُوسترليتز مساء الإِثنين 2 كانون الأَول  (أكتوبر) 1805 وقال لضباطه وجنوده: “لن تعودوا إِلى بيوتكم إِلَّا تحت أَقواس النصر”، وصباح الثلثاء في 18 شباط (فبراير) 1806 أَصدر أَمره الأَمبراطوري بتشييد قوس النصر في مكان رمزي على دقائق من الباستيل ووسْط دوَّارٍ تنتشر منه جادات رئيسة في ﭘـاريس لا يمكن سلوكُها دون المرور تحت قوس النصر، لم يكن يَـحدُسُ أَنَّ هذا الـمَعْلَم لن يكون ذكرى انتصار في معركة بل ذاكرة البطولة في تاريخ فرنسا.

هكذا ساحةُ الشهداء في تاريخ بيروت، وهكذا هي اليوم في تاريخ لبنان: بَطَلةُ مكانٍ خالدٍ تتعاقب عليه الأَسلاك الشائكة والقواطع الحديدية والحواجز الإِسمنتية والعوائق البشرية والتظاهرات الـمليونية وترتفع فيها قبضة الثورة شاهدة على فجر يرتقبه لبنان برغم سَوادٍ يُغرِقها فيه الثعالب والذئاب.

تبقى هذه الساحةُ البطَلةُ شاهدةً أَمينة وذاكرةَ استشهاد بُطولي في وطنٍ لن تمحو معالـمَ إِرثه الخالد أَحداثٌ عابرة وسياساتٌ قزْمة غيرُ مستحقةٍ شرفَ أَن تَحكُم لبنان بعدما ساسه كبارٌ حكَموا ولم يتحكَّموا، خدموا الدولة ولم يستخدموها، سجلوا أَسماءهم في ذاكرة لبنان ومَضَوا، ولم يَربِضوا على ذاكرته سنواتٍ وعقودًا مثلما يربِض بعدَهم مَن توارثوا الحكْم وأَورثوه نسلَهم وما زال ينهش في صحة الوطن.

سيطْلع الفجر على ساحة الشهداء بعد ليلها الجاري الطويل، وسيَجرف وُحُول الخائنين ويضيْءُ على الثوار الـحقيقيين، وستسطع شمسُه على ساحة القلب من بيروتَ الغالية التي وجهُها أَعلى من أَن يُشوِّهَهُ أَقزامٌ عابرون، وستبقى بطلةُ المكان ناصعةً تـتـأَرَّخ للآتي من السنوات شمسًا لن يستحقَّ وهجَها إِلَّا أَبناءُ لبنان اللبناني.

 

  • هنري زغيب شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com
  • يصدر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع نشْره في صحيفة “النهار” بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى