لماذا لن تستطيع مصر الخروج من المستنقع الليبي في وقت قريب

منذ بداية الحرب الأهلية الليبية دعمت القاهرة اللواء خليفة حفتر من دون تحفظ بالكلام والأسلحة والمستشارين العسكريين مُراهِنة على نجاحه ووصوله إلى السلطة، وفي نهاية المطاف قطف ثمار هذا التورّط. فهل تسير الرياح الليبية بما تشتهي سفن الرئيس عبد الفتاح السيسي؟

الرئيس رجب طيب أردوغان وفايز السراج:: الدعم التركي حفز وعزز الدعم المصري

 

بقلم ناثان تورنتو*

في ليبيا، تبدو مصر كأنها في سجن المُدينين. بالنظر إلى مسار الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ ما يسمى ب”الربيع العربي” قبل عقد من الزمن، ناهيك عن الحدود المشتركة مع ليبيا البالغ طولها 1,158 كيلومتراً وتدفقات الأسلحة من الجماهيرية السابقة إلى سيناء، كان تورط مصر في ليبيا أمراً لا مفرّ منه.

بدأ التدخل المصري في العام 2014 كدعم خطابي لجنرال ليبي يُنظَر إليه على أنه مُعادٍ للإسلاميين، المشير خليفة حفتر، في حرب أهلية محلية. وسرعان ما توسّع هذا الدعم وتحوّل إلى شحنات أسلحة ومرتزقة ومخابرات ومستشارين عسكريين في نزاع دولي شمل مجموعة من البلدان الأخرى. إن المخاطر كبيرة في ليبيا، لكن مصر مُلتَزِمة. إن الديون التي تكبّدتها – سياسية ومالية وإيديولوجية – ستُشَكّل تورّط مصر الذي يُشير إلى أن القاهرة قد تكون في ليبيا أطول مما تُمليه مصالحها.

إن أوضح الديون وأبرزها هي سياسية. لقد دعمت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة الإنقلاب العسكري المصري ضد الرئيس السابق محمد مرسي الذي ينتمي إلى جماعة “الإخوان المسلمين” في العام 2013. وفي المقابل، تعهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، صراحة وضمنياً، بدعم سياسة هاتين الدولتين المعادية ل”الربيع العربي”. الآن صارت مصر جزءاً من تحالف أوّلي من الدول العربية التي تعتمد رؤيته للإستقرار والأمن في الشرق الأوسط على سياسة خالية من المعارضة الحقيقية.

تظهر آثار هذا التحالف الأوّلي في الفوضى الحالية في ليبيا اليوم، حيث تواجه قوات حفتر، المدعومة من الإمارات وروسيا ومصر،  الميليشيات التي تدعمها تركيا، التي أيدت حكومة الوفاق الوطني التي تتخذ من طرابلس مقراً لها. وعلى الرغم من أن مصر حاولت التوسط بين حفتر وحكومة الوفاق الوطني، وعلى الرغم من أن جميع عناصر الحكومة المصرية لا تتفق مع أساليب وأهداف حفتر، فإن التزام تركيا الأخير بدعم حكومة الوفاق الوطني المُحاصَرة قد دفع بمصر إلى دعم حفتر، بسبب دعم أنقرة القوي لجماعة “الاخوان المسلمين”.

قد يكون هذا الدعم تأثّر أيضاً بموقف دولة الإمارات، التي دعمت أيضاً حفتر بقوة. استخدمت مصر مجالها الجوي وقدراتها على النقل الجوي وقواعدها في الصحراء الغربية لدعم قطار حفتر اللوجيستي، حتى تعزيز قواته بالمرتزقة من الخارج، ناهيك عن تقديم المستشارين العسكريين والاستخباراتيين. بعد استثمار الكثير في هذا التحالف الأوّلي، فإن الإنسحاب ببساطة الآن سيكون أمراً غريباً. والأمر الأكثر أهمية هو أن الزعماء المصريين قد لا يدركون حتى الآن التكلفة التي قد يتحمّلها بلدهم ويدفعها من العديد والعتاد والمواد في حال تصلّب موقف التحالف الأولي واندلعت حرب إقليمية – حيث ستكون ليبيا واحدة فقط من ساحات القتال المحتملة.

إضافة إلى هذه الديون السياسية، لمصر مصالح مالية والتزامات أبقتها جزءاً لا يتجزأ من الصراع في ليبيا. في السنوات التي انقضت منذ وصول السيسي إلى السلطة، تراجعت قيمة الجنيه المصري وتردّت حالة الاقتصاد العسكري المزدهر بالإضافة إلى استشراء القمع السياسي الصريح الأمر الذي حال دون تنمية القطاع الخاص وصعود طبقة وسطى مصرية واثقة. لم تكن مليارات الدولارات التي تتدفق من الخليج كافية لتحويل الاقتصاد المصري، وقد تسببت الفوضى في ليبيا في وقف التحويلات المالية التي كان يرسلها المصريون الذين كانوا يعملون هناك في السابق. إذا انسحبت مصر من ليبيا الآن، فإنها ستخسر أيضاً نعمة عقود إعادة الإعمار هناك، والتي لا تستطيع تحملها.

أما أعمق ديون مصر فهي إيديولوجية، مُستَحَقّة لشعبها. إن توافقها مع الإمارات والسعودية ليس مجرد زواج مصلحة، بل هو بمثابة نقابة تُحجَزُ فيها أقسى معاملة لأي كلمة أو صك يُدين بالإسلام السياسي، وحتى بعض آخر لا يفعل ذلك. لقد حفّز مقتل سبعة مسيحيين قبطيين في شباط (فبراير) 2014 على أيدي متطرفين إسلاميين في ليبيا على دعم مصر للتورّط هناك وخلق صلة واضحة للتمرّد الإسلامي في سيناء، التي تلقت أسلحة ورجال من جماعات في ليبيا. هذه الإتجاهات، إلى جانب الدوافع المُعادية للإسلاميين لدولة الإمارات والنبذ الحازم لحكومة مرسي الإسلامية، ألقت بظلالها العلمانية غير الليبرالية على حرب ليبيا. بالنسبة إلى أعضاء التحالف الأوّلي، كلما طالت مدة الحملة الوطنية في طرابلس، زاد احتمال بقاء معقل من الدعم الإسلامي لتهديد الإستقرار الإقليمي.

تكمن المشكلة في هذا التفكير العلماني غير الليبرالي في أن المصريين هم من أكثر المسلمين تقوى. قد يتوقّفون عن التصويت للإسلاميين، لكنهم لن يتوقفوا عن قراءة القرآن في المترو أو ارتداء الحجاب، ناهيك عن التخلّي عن الضرورة الدينية لإنشاء مجتمع مسلم. سوف ينتظرون ببساطة إنتهاء هذه المرحلة العلمانية غير الليبرالية، ثم يتحركون مرة أخرى عندما تأتي الثورة المقبلة. ولأن المصريين سيتذكرون تهميش الإسلام، فإن الزعماء المصريين ليسوا مُتحمّسين لرؤية استحقاق هذا الدين، لذلك عليهم أن يُغدقوا بموارد أكبر للسيطرة على الفكر، من دون إقناع المصريين بتغيير تفكيرهم الإسلامي.

يرتبط هذا الدَين الإيديولوجي بالديون السياسية والمالية. إذا أذعن القادة المصريون للنداء الأساس للسياسة الإسلامية، عندها سوف يستدعي الأمر من رعاتهم السياسيين في الخليج المطالبة بديونهم ولن تكون مصر قادرة على تبرير التدافع لعقود إعادة الإعمار في ليبيا. إذا استمر القادة المصريون، كما يبدو مُحتملاً، في السيطرة على الفكر والمعارضة الإسلامية وغيرها، فلن يكون لديهم خيار سوى المشاركة في القتال في ليبيا حتى النهاية المريرة، حتى لو كان ذلك يعني أن تحصل مصر على أقل بكثير مما كانت تأمل عندما دعمت حفتر في بادىء الأمر. وكما هو الحال في أي سجن للمُدينين، لن يكون من السهل على مصر الخروج قريباً.

  • ناثان تورنتو هو رئيس تحرير برنامج العلاقات المدنية العسكرية في الدول العربية في مركز كارنيغي للشرق الأوسط. يُركّز عمله البحثي وممارسته على العلاقات المدنية-العسكرية، وفعالية ميدان المعركة، والتجنيد العسكري والتعليم، والأمن في الشرق الأوسط، لا سيما في منطقة الخليج.
  • كُتب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى