السلطة تَخرُج من الباب وتعود من النافذة؟

بقلم عرفان نظام الدين*

أثبتت الأحداث خلال السنوات القليلة المُنصرمة ان السلطة تظل أقوى مرات عدة من الشعب وأكثر مرونة وقدرة على المناورة وتغيير جلدها حين تتعرض للخطر او تشعر بأن البساط سيُسحَب من تحت قدميها.

ففي الثورات التي شهدتها الدول العربية ساد اليقين بأن مطالب الشعب ستتحقق، وان ساعة الحسم قد حانت بعدما رأوا الجماهير وهي تهتف بسقوط النظام ورموزه بعد ان امتلات الساحات بهم.

وتمضي الأيام وتكثر الأحاديث عن الغد المُشرق والحريّة وحقوق الشعب، ويبالغ البعض في تفاؤله ليرسم صورة وردية عن الحلول والمستقبل والرخاء، فيما تراهن السلطة على الملل وعامل الوقت والطقس، وتُطلق الوعود الرنّانة التي تبدو وكأنها نسخة طبق الاصل عن مطالب الشعب وبعدها تبدأ لعبة “فرّق تَسُد” وتمارس وسائل الترهيب والترغيب .

وتُشير التجارب أيضاً الى أن مرونة السلطة مُتذبذبة لدرجة الإستعداد للتخلي عن بعض رموزها، وسجن بعضهم، والتعهّد بمحاكمتهم بتهمة الفساد، وتُفرز رموزاً جديدة تَدّعي الشفافية والأمانة لتتصدّر الواجهة بالوعود البرّاقة التي تُدغدغ عواطف الجماهير.

قصة كبش الفداء تكرّرت في عددٍ من الدول العربية مثل السودان عندما قدم الجيش الرئيس المخلوع عمر البشير على مذبح المصالح وعَرَضت صور ملايين الدولارات التي صُودرت من منزله، وتمّ سجن عدد من مساعديه، وصودرت أموالهم لتنتهي الإنتفاضة ببعض المكاسب للمتظاهرين مقابل دعم نفوذ القيادة العسكرية .

وتكرّر المشهد في الجزائر بعد مظاهرات مليونية صاخبة طالبت بإسقاط النظام، ومُحاسبة الفاسدين وناهبي أموال الشعب. ومرة أخرى تتدخل الدولة الخفية بإجبار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على التنحي، وتم اعتقال اشقائه وكبار مساعديه من رموز عهده فسقط هؤلاء وصمد النظام بوجوه جديدة بدأت تستعيد مفاصل الحكم والقرار.

والمشهد عينه تكرّر قبل أيام في لبنان عندما تمّ تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة الدكتور حسان دياب من مستشاري أركان النظام الذين طالبت الجماهير الغاضبة بإسقاطهم واتهمتهم بالفساد والهدر ونهب المليارات.

وهنا نلاحظ ان ما جرى ويجري في الساحات العربية يُشبه لعبة القط والفأر (توم أند جيري) وهو ما ذكرني بقصةٍ من التراث الغني بالدروس والعبر للتأكيد على زيف خطة التغيير الصوري الذي يختفي فيه وجه ليعود مرة اخرى بمظهر آخر وصورة مُقنَّعة والنتيجة واحدة.

هذه القصة تحكي عن بلدة في شمال سوريا تعيش في ظل العهد العثماني، معظم سكانها من الإخوة المسيحيين الذين يُدير شؤونهم راهب يساعده مسؤولٌ مٌتسلّط يُذيقهم شتى أشكال العذاب، ويسرق محاصيلهم، ويفرض عليهم الرسوم والضرائب.

وبعد معاناة طويلة أرسل أهالي البلدة وفداً يمثلهم الى الآستانة لإبلاغ شكاويهم الى الباب العالي، فقوبلوا بترحيب وحفاوة وتفهّم، ووُعِدوا بإصلاح الحال بشكل عاجل وتلبية طلبهم باعتناق الدين الاسلامي وتنحية الراهب ومساعده وإرسال إمامٍ يُصلي بهم ومساعد عادل. فرح الأهالي بالوعود وتلقوا إشعاراً بموعد قدوم الشيخ الموعود .

في الوقت المحدد خرج الأهالي عن بكرة أبيهم مع طبل وزمر وهتافات ترحيب. وعندما وصل الإمام تبيَّن لهم انه هو الراهب نفسه المعزول االذي غيَّر ملامحه، وارتدى جلباب الشيوخ وعمامتهم فيما كان مساعده يؤذّن ويُكبّر.

وهكذا عاش الأهالي خيبة أمل صاعقة، واقتصر التغيير على المظهر لا الجوهر وهم يرددون: “كأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا”. وهذا هو حالنا اليوم عندما خرجت الانظمة من الأبواب لتعود من النوافذ.

  • عرفان نظام الدين هو كاتب وصحافي عربي، كان رئيساً لصحيفة “الشرق الأوسط” السعودية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى