هل الجيش هو الحلّ؟

بقلم كابي طبراني

إنتشر في الفترة الأخيرة على نطاقٍ واسع تفسيران عن كيفية تصرّف القوات المسلّحة اللبنانية في الإحتجاجات المستمرة في لبنان. كلاهما غير دقيق، وكلاهما يفشل في فهم حقيقة ما يدفع الجيش.

التفسير الأول – الذي يردّده العديد من المحتجّين – هو أن الجيش حمى المتظاهرين، وفي الحدود التي يفرضها النظام السياسي الطائفي، دعم مطالبهم. والثاني، الذي سوّقه سياسيون ونقاد اليمين السياسي في الولايات المتحدة الذين يدعمون إسرائيل، هو أن القوات المسلحة اللبنانية هي واجهة ل”حزب الله”. ولكن نظرة خاطفة على ما حدث في لبنان في الأسابيع الستة الماضية يدحض كلاً من الروايتين.

في حين أن الجيش دافع عن المتظاهرين في أماكن كثيرة، إلّا أنه فعل أكثر من ذلك. فقد اعتقل بعض المُحتجّين وحتى أُسيئت معاملتهم في بعض المواقع. في الأسبوعين الفائت والجاري، على سبيل المثال، إستخدم الجنود القوة لإزالة متظاهرين أغلقوا طرقاً ساحلية رئيسة. في أوقات أخرى، وقف الجيش جانباً ولم يتدخل في الوقت الذي كان بلطجية من “حزب الله” و”حركة أمل” يُهاجمون المتظاهرين ويدمّرون خيمهم. هذا بالتأكيد لا يُشير إلى أن الجيش يقف بوضوح إلى جانب الإنتفاضة.

من ناحية أخرى، فإن القوات المسلحة بالتأكيد لم تتلقّ أو تأخذ أوامر من “حزب الله”. في الوقت الذي كانت الطبقة السياسية تتوقع أن تتدخل المؤسسة العسكرية وتُزيل الإحتجاجات بالقوة، فإن الجيش في الواقع تجنّب بشكل كبير اتخاذ مثل هذه الخطوة الجذرية، بل إنه استخدم القنابل المسيلة للدموع ضد بلطجية الثنائي الشيعي الذين كانوا يهاجمون المتظاهرين في بداية هذا الأسبوع. وقد أدّى ذلك إلى انتقادات من “حزب الله” و”حركة أمل”، الأمر الذي يؤكد على أن القوات المسلحة لديها أجندتها الخاصة وهي بالتالي مُستقلّة.

الواقع أن الحقيقة أبسط بكثير. القوات المسلحة اللبنانية هي انعكاس للمجتمع الطائفي في البلاد، بكل اختلافاته وخلافاته. لتقليل الضغوط التي قد يفرضها ذلك على المؤسسة الوطنية، فقد تبنّت منذ فترة طويلة هوية شركة فوق الإنقسامات الطائفية. وقد ركّزت هذه الهوية على الحفاظ على المؤسسة وإدارة التناقضات الأساسية من الداخل.

ماذا يعني هذا بالنسبة إلى “حزب الله”؟ في حين أن لدى الحزب حلفاء في الجيش، فإنه ليس في وضعٍ يسمح له بإجبار المؤسسة العسكرية على التصرّف بطريقة مُعيّنة، كما أن أياً من فروع هذه المؤسسة الوطنية يخضع لسيطرته. بالأحرى، تتألف القوات المسلحة من مجموعات من المصالح التي تسعى إلى الحفاظ على الوضع الراهن الذي تستفيد منه من خلال تجنّب الصدام في ما بينها من أجل الصالح العام الأكبر للمؤسسة. البعض منها قد يتعامل مع “حزب الله”، والبعض الآخر قد لا يُحبّذ الأمر. لكن الأطراف المختلفة لن تُهدّد الوحدة العسكرية بتحويل ذلك إلى مسألة خلاف داخلي.

إن الدوافع الرئيسة التي توضّح سلوك الجيش في الإحتجاجات في لبنان كانت ثلاثة: تجنّب الإنجذاب والوقوع في فخّ الإنقسامات السياسية التي فاقمتها الإنتفاضة، والإحتفاظ بالدعم الشعبي من طريق تصوير الجيش على أنه مؤسسة وطنية مميّزة خالية من الفساد، وحماية المؤسسات العامة ولكن بطريقة لا تُهدّد الدعم الشعبي.

في كثيرٍ من النواحي، فإن النموذج الذي تستمر القوات المسلحة الإلتزام به هو الذي وضعه أول قائد للقوات المسلحة اللبنانية المستقلة، الجنرال فؤاد شهاب. في العام 1952، كانت هناك أزمة سياسية عندما استقال الرئيس بشارة الخوري تحت ضغط من خصومه السياسيين. في ذلك الوقت، حمى شهاب الجيش من النزاعات السياسية عندما وافق على رئاسة حكومة مؤقتة فقط إلى أن يتم انتخاب خليفة للخوري.

في العام 1958، حدثت أزمة سياسية أخرى عندما سعى الرئيس كميل شمعون إلى استخدام التلاعب في الإنتخابات لتمديد فترة رئاسته. ما تلا ذلك كان حرباً أهلية قصيرة الأمد، حيث أبقى شهاب الجيش على الحياد مُجدداً في الوقت الذي منع أي طرف من الفوز بأي نصر حاسم. من خلال لعب دور الحَكَم، لم يحفظ شهاب المؤسسة العسكرية فحسب، بل اكتسب أيضاً ثقة كافية ليتم انتخابه رئيساً للجمهورية لخلافة شمعون.

المفارقة هي أنه في حين أن قادة الجيش يتجنّبون دائماً وبقوة تسييس القوات المسلّحة، إلا أن العديد منهم كان لديه الطموح ليصبح رئيساً للجمهورية. في العقدين الماضيين، وصل إلى سدة رئاسة الجمهورية ثلاثة قادة سابقين في القوات المسلحة. قد يكون للقائد الحالي العماد جوزيف عون طموحٌ مماثل.

قد يُفسّر ذلك جزئياً سبب حرصه الشديد على الحفاظ على حياد القوات المسلحة وتجنّب تنفير الشعب. عون لا يريد الإنخراط في قمع مواطنيه، خصوصاً وأن مطالبهم لها ما يُبرّرها. علاوة على ذلك، فهو بالتأكيد لا يريد أن يفعل ذلك نيابة عن طبقة سياسية فقدت مصداقيتها، والتي تشمل الشخصية المثيرة للجدل والطامح الرئاسي، جبران باسيل.

هناك وَهمٌ بين بعض اللبنانيين بأن القوات المسلحة تُمثّل حلاً للأزمة السياسية الحالية. مع سمعة السياسيين في الحضيض بسبب الطريقة التي نهبوا بها الدولة وأوصلوا البلاد إلى حافة الإنهيار، فإن الفكرة القائلة بأن الجيش قد يكون خشبة الخلاص ويستطيع أن يتولى السلطة بنجاح هو أمر خطير. لن يقتصر الأمر على تقويض كل ما حاول الجيش القيام به منذ بدء الإحتجاجات، بل سيكون ضد لعبة التوازن التي سمحت له منذ فترة طويلة التغلب على مفارقاته واختلافاته.

لهذا السبب من الخطأ لمعارضي الإحتجاجات محاولة دفع الجيش إلى قمع المتظاهرين، ولهذا السبب أيضاً أن محاولة معاقبة الجيش للزعم القائل بأنه مخالب “حزب الله” تُعتبَر أمراً متهوّراً. الجيش اللبناني، مثله مثل معظم المؤسسات الوطنية التي تُجسّد الوحدة في الدول المنقسمة، هو انعكاس للبنان نفسه. إن بقاءه غالباً ما يعني ويتطلّب اعتناق واحتضان تناقضات ومفارقات صعبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى