من ليل التسَلُّط  إِلى فجر الثورة

بقلم هنري زغيب*

قبل نصف قرنٍ تمامًا (1969) صدر للعالِـمة السويسرية الأَميركية إِليزابيت كُوبْلِرْ رُسّ “Kubler-Ross  Elisabeth” (الإختصاصية في شؤُون الطب النفسي والأَمراض العقلية) كتابُـها الأَشهر”الـموتُ والاحتضار”، وفيه نظريَّــتُها الشهيرة التي حملت اسمَها: “خمسُ مراتبَ للحُزن”.

هذه الـمراتبُ الـخمسُ هي: الإِنكار، الغضَب، الصفَقة، الإكـتـئاب، الرُضُوخ.

ولا أَرى بلَدًا يغمرُه الحزنُ القاهر، وتُطبَّقُ فيه هذه الـمراتبُ الخمسُ جميعُها، كما تُطَبَّقُ اليوم في لبنان.

ولآخُذْها واحدةً واحدة.

الـمرتبة الأُولى: الإِنكار. وهو واضحٌ منذ اندلاع الثورة قبل 52 يومًا مطالِبةً بتغيير النظام الحالي والـمنظومة الراهنة والانتظام الدِكتاتوري والتنظيم الأَخرق والنُظُم الـمُنْتَهَكة، فيما أَولياءُ هذا النظام الطائفيّ الـمحاصصاتـيّ العشائريّ القبليّ التوريثيّ ما زالوا يُزاولون الإِنكار والإستكبار، ويُمارسون السُلطة بكل برودةٍ كأَنْ لا وُجودَ لـمليون لبناني وأَكثرَ يفترشون الشارع كي لا تُوْدي بهم السُلطة إِلى الهاوية، وها نحن بدأْنا ننزلق إِلى الهاوية.

الـمرتبة الثانية: الغضَب. وها هي وسائل الإِعلام العالمية قاطبةً حاضرةٌ في شوارعنا وساحاتنا تَنقُل، مع إِعلامنا الـمحلي، صرخاتِ الغضب طالعةً من حناجرِ ثُوَّارٍ ليسوا “قُطَّاعَ طُرُق” ولا فوضويين ولا مُشاغبين ولا مُنقادين بل جامعيون ومثقَّفون وأَكاديميون ومِهَنيون راقُون مـحترَمون يُعلنون بكل غضبٍ إِيمانهم بلبنان أَكثر مـمَّن يسوسون لبنان فيحفَظون مصالحهم ويدَّعون الحفاظ على مصالح الوطن والـمُواطنين.

الـمرتبة الثالثة: الصفَقة. وها أَولياءُ الحكْم يدوسون على كرامات الشعب وصرخات الثوار وموت مواطنين انتحارًا من اليأْس والإِحباط والقَرَف، وتمضي السُلطة السياسية في عقْد صفقَات ومُساومات في غُرَف مغلقة، وفي تشكيلِ حكومةٍ على قياس أَهل البَلاط، وفي تعيين رئيس حكومةٍ يُريدونَه خانعَ القُبول بشروطِهم، ويَـمضون بهدوءٍ في ترتيب البيت لصالح أَهل البيت لا لصالح الشعب، ويُمارسون السلطةَ والتسلُّط كأَنْ ليس في ساحات لبنان وشوارعه أَكثرُ من مليون لبناني فاضحين تلك الصفَقاتِ السُلْطويةَ الـمشبوهةَ في الغُرَف الـمشبوهة.

الـمرتبة الرابعة: الإكتئاب. وليس أَدلَّ عليه في لبنان من هذه الـموجة الـمُرعبة التي تُلقي برجالٍ آباءٍ إِلى الإنتحار اكتئابًا وعجْزًا عن تأْمين رغيفِ خبزٍ أَو منقوشةِ زعتر أَو قسْط مدرسة. ولكنَّ هذا الاكـتـئـابَ لا يَبلُغُ مسامعَ أَهل السلطة، بل يُواصلون قيادةَ البلاد كأَنهم في عِـزّ سلطانهم، كأَنَّ البلاد في أَزهى عصورها، كأَنَّ الشعبَ واقفٌ على أَبواب بَلاطهم خانعًا طائعًا منحنيَ الرأْس والكرامة.

الـمرتبة الخامسة: الرضوخُ (أَو القبولُ القسريُّ بالواقع أَيًّا يكن هذا الواقع). لكنَّ هذه الـمرتبة هي التي ينتفضُ شعبُنا عليها منذ 55 يومًا، رافضًا إِياها، كاسرًا أَقفاصَ السجن، مُـحطِّمًا جميعَ الحواجز، خالعًا نيرَ التسلُّط والـمكابرة والإِنكار والصَلَف والإستبداد، ماحقًا مبدأَ السلطويين “أَنا أَو لا أَحد”، دائسًا بسْكوت ماري أَنطوانيت، رافضًا كلَّ خضوع وخنوع ورضوخ، مطيحًا أَنفاقَ التردُّد ودهاليزَ الخوف، ناشبًا بقوّةِ الحق كما ناشبٌ أَرزُ لبنان العالي على جبين لبنان العالي وفي قلب عَلَم لبنان الغالي، مؤْمنًا بأَنْ “لا بُدَّ للَّيل أَن ينجلي ولا بُدَّ للقيد أَن ينكسر”.

قبل نصف قرنٍ صدر نموذجُ الـخَمْسِ الـمراتب في كتاب إِليزابيت كوبْلِر رُسّ (1926-2004)، ويرى العالَـم أَنَّ تلك الخمسَ قد تكونُ هادِمةً دُوَلًا وأَوطانًا وشعوبًا. وها اليومَ خَـمستُها تُطَبَّق في لبنان، لكنها عندنا مرفوعةٌ في الهزيع الأَخير من الليل الطويل، لأَنَّ الفجرَ بات أَقربَ من تَوَقُّع أَهل السُلطة السُلطويين الـمتسَلِّطين، وسوف يُغافلُهم فجرُ الثورة فتُشرقُ شـمسُها عليهم لترميهم جميعًا في العَـتمة الأَبدية.

 

هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى