السنعوسي مُتَمرِّداً

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

هناك روايات توَدُّ لو تعبرها، فلا تقف عند تفاصيلها، ولا تتأمل متنها أو الحواشي، لأنها ببساطة خاوية على حروفها. فتقطع الصفحات تلوَ الصفحات، وتغذ السير بين السطور كي تنتهي منها كما يفعل المُشيِّعون بميت ثقيل الوزن سيّىء الذكر. لكن بعض الروايات – على قلّتها – تعبرك، وتُحرّك فيك كل نأمة، وتغلق عليك منافذ الشرود، وتُفجّر في شرايينك بارود التحفّز والتأمّل والتمرّد والقلق. ولأن الروائي العظيم رسول لم يُوحَ إليه، فإن في تابوت كل عمل عظيم ألواحٌ سماوية ترشد مجتمع التيه إلى سُبُل الرشاد. ولأن الكاتب الفذّ يحمل في يده مبضعاً دقيقاً يشرح به مواطن الفساد ويستأصل بؤر العطب التي تجاوزها البعض باعتبارها شرّ لا
بد منه، فإنني أنَصِّب سعيد السنعوسي واحداً من الكتّاب الكبار الذين تفوّقوا على محيطهم الثقافي الفاسد، وتطرّقوا إلى أمور يعجز غيرهم عن الإشارة إليها ولو من بعيد.

على خطى تشارلز ديكنز في روايته أوليفر تويست، يُنَصِّبُ السنعوسي نفسه مُدافعاً عن حقوق البسطاء، ويُحارب العادات الإجتماعية الفاسدة في المجتمع الكويتي في أكثر من رواية. وتأتي رواية “سوق البامبو” والتي استلهمت من قصة واقعية مؤلمة شاهداً على أحقّية هذا الروائي الكويتي الشاب في اعتلاء مراكز الصدارة بين الكتّاب العالميين الكبار. ففي تلك الرواية، تعرّض الكاتب بجرأة مُتهوّرة إلى بعض القيم الخليجية المُخجِلة، فاضحاً المُمارسات العنصرية البغيضة والتي تُمارَس من دون مراجعة ضد الأقليات الوافدة من شتى أرجاء العالم الفقير.

بطل الرواية ثمرة لم يُكتَب لها أن تنضج، فقد جاء نتيجة لقاء لم يُوَثَّق بين الكويت والفلبين. صحيح أن راشد وجوزفين قد حرّراً عقداً وَقَّع عليه شاهدا عدل كويتيان قبل أن يهتز بهما مركب شراعي في عرض البحر، إلا أن العرف الكويتي الظالم حرم الخادمة الفلبينية البائسة من البقاء إلى جوار زوجها الراشد المأسوف على صلابته. وعلى إثرها، عادت جوزفين إلى مسقط حزنها لتُقاسي الأمرّين تحت وصاية أب لا يجد غضاضة في المُتاجرة بعرضه طالما جاء العرض سخياً.

رفضت جوزفين أن تتحوَّل إلى فتاة ليل كأختها “آيدا” من أجل أن تُرضي جشع أب سكّير لا يهتم إلا بشرب الكحول وصراع الدِيَكة، ودفعت بنصف المال الذي كان يصلها من زوجها الخليجي – على قلّته – للرجل تحاشياً لغضبه. وظلّت تغزل ثوب الأمل لتصنع لوليدها حلماً يليق بنَسَبه. فهو كويتي وابن كويتي وسليل عائلة الطاروف التي طغت في البلاد فأكثرت فيها العنجهية والفساد.

جاء عيسى إلى الوجود بوجه فلبيني وصوت أجش كصوت أبيه. لكنه أدرك في ما بعد أن الأصوات وحدها لا تمنح أصحابها شرعية البقاء في بلاد لا تعترف إلا بالملامح، ولا تمنح الجنسية إلا لأصحاب البشرة الداكنة والأصول المُوثَّقة. وكان على عيسى أن يواجه سخافات المُجتمَعَين وحده. فلا هو قادر على العيش في بلاد أمه بقلب فلبيني قانع، ولا هو يستطيع الإقامة بوجه فلبيني صارخ البياض في بلاد أبيه. وكأنه كان مجرد عطسة لمُجتمَعَين تناقضا في كل شيء واجتمعا عليه.

توقّف المال الآتي من بلاد النفط والغاز، وكان على جوزفين أن تعود إلى الخدمة في البيوت من أجل أن ترضي نزق والدها وحماقاته التي لا تنتهي. ثم كان على عيسى أن يترك الدراسة ليتنقل بين الأعمال الرخيصة طلباً للبقاء في مجتمع ينهش فقراءه من دون رحمة. وظلّت جوزفين رغم توقف أخبار راشد تُغذّي الأمل في صدر ولدها بحتمية الذهاب إلى بلاد المن والسلوى للإقامة فيها والتنعم بخيراتها الوفيرة.

ثم يؤسَر راشد في حرب تحرير الكويت، ويتأكد خبر وفاته. ويأتي غسان أخيراً ليحمل عيسى بجواز أحمر إلى بلاد أبيه. لكن غسان، وإن كان صديق والده وثاني شاهدين وقّعا على عقد شرعيته، إلّا أنه لم يكن يملك صلاحية التوّسط لعيسى عند جدته غنيمة، لأنه مغضوب عليه هو الآخر وإن كان يحمل وجهاً عربياً لا ريب فيه. صحيح أن غسان يتحدّث العربية بطلاقة كوالديه، وأنه وُلِد في الكويت ونشأ فيها، وأن أهله في عراقة أسرة الطاروف، إلا أنهم لا يُعامَلون كما يُعامَل الكويتيون. فهم ينتمون إلى فئة “البدون”، وهي فئة نشأت في خاصرة الوطن من دون أن تنتمي إليه. فيُمكنهم أن يقوموا بخدمة الوطن والدفاع عن أرضه وسمائه كما فعل صاحبنا تماماً، لكنهم لن ينالوا بسبب التقسيم المُجتمعي المقيت حقوق المواطنين الآخرين. صحيح هو كراشد الإبن، لكنه إن تقدَم لهند أخته طالبا يدها، فلن تتردد الجدة غنيمة في طرده شر طردة.

وهكذا يدخل عيسى بيت الطاروف من باب الخدم الخلفي، ليبقى هناك فترة من التعاسة. صحيح أن شقته في بيت جدته الكويتية كانت أرحب كثيراً من شقة “مينذوزا” جده الفلبيني، وأنها كانت تعج بالرفاهيات التي لم يكن يتخيّلها، وصحيح أن جدته وإحدى عمّاته قد تنازلتا له عن حصتهما في معاش أبيه، إلا أنه كان محظوراً عليه التصرّف كأحد أفراد البيت أو مُخالطة أطفاله. وظل عيسى لأشهر عدة مُجرّد خادم فلبيني جديد في بيت عائلة الطاروف، حتى طلبته إحدى الجارات لتقديم الطلبات للضيوف في إحدى المناسبات. وعندها تثور ثائرة عيسى، ويرفض الخضوع لرغبات الجدة غنيمة، ويخرج من بيتها إلى غير رجعة.

يمكث عيسى في الكويت فترة من الزمن، يختلط فيها بأبناء لغته، ويعمل مع صديقه إبراهيم في أحد المطاعم قبل أن تُطالبه عماته بالرحيل إلى الفلبين خوفاً من الفضيحة باكتشاف أمره. يرفض عيسى الخروج من الكويت لأن الكويت ليست بيتاً لأبناء الطاروف يحكمون فيها كيفما يشاؤون، ثم يدرك أنها ليست أكثر من بيت طاروف ضيق لا يتسع إلا لثقافة واحدة وعنصر واحد حين ينقطع عنه المال ويُسرّحه صاحب المطعم من دون جريرة. وفجأة، يجد بطلنا نفسه عائداً من حيث أتى، مُصاحَباً بدعاء أخته خولة وعمته هند التي كانت تؤمن نظرياً بالمساواة وتحارب من أجل تحقيق مطالب “البدون”، إلا أنها بلعت لسانها حين تعلّق الأمر بابن أخيها الفلبيني الذي لن يستطيع إخفاء بشرته بيضاء من أعين الجيران.

وهكذا، انتهت قصة الضحية الصغير، بعودته إلى مسقط آلامه، ليتزوج من ابنة خالته “ميرلا” التي كانت بدورها ضحية لعلاقة غير شرعية بين أمها وديك أوروبي استعمرها فترة ثم تركها ورحل. لكن القضايا التي فجّرها الصغير لم تكن في حجم جسده الواهن، بل كانت قضايا كونية تحتاج إلى مراجعات كبيرة. فمجتمع الكويت الذي يعاني من طبقية فجة وعنصرية بغيضة يتعرّى تحت أنامل أحد أبنائه البواسل، الذين لم يتّخذوا الكتابة وسيلة لمهادنة السلطة أو ممالأتها، وإنما لفضح الزيف المجتمعي الصارخ والتصدّي لمغالطاته المفضوحة في مجال حقوق الإنسان. وتبقى صرخة سعيد السنعوسي ضربة معول قوية في جدار فصل طائفي وعنصري بغيض تُداس باسمه كرامة الإنسان تحت مسمى اللون أو الجنس أو الدين في بلاد تختنق برائحة النفط وسطوة المال.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: Shaer129@me.com      

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى