أطفالُ المَزهَرِيّة

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

رفعت الأم عينيها المُجهَدَتَين من فوق آخر ورقة من تقريرٍ إنهمكت في إعداده منذ عودتها من العمل، لتُلقي نظرة غاضبة على طفلها الذي اقتحم عليها غرفة المكتب من دون استئذان. كان الطفل يضع إحدى يديه في حلق مَزهَرِيّة ثمينة ويُحيط خصرها بذراعه الأخرى، ولما كانت المَزهَريّة آخر ما تبقى من ذكريات الجدّة الراحلة، نهضت الأم من دون وعي لتحمي ميراثها الثمين من التشظي. لكنها أدركت من صرخات طفلها أن هناك ثمة مشكلة.

“أخرج يدك من المَزهريّة يا عزيزي،” قالت الأم. لكن عزيزها الذي انهمرت الدموع من عينيه لم يستطع إلى ذلك سبيلاً. حاولت الأم جاهدة أن تنتزع يد طفلها التي ابتلعها حلق المَزهريّة، لكن دون جدوى. وكما هي عادة الأمهات حين يعجزن عن فعل شيء، نادت زوجها بصوت مُحتَقِن: “أنقذنا يا ستيفن … لقد انحشرت كفّ روبرت في المَزهريّة ولا أستطيع إخراجها”.

حاول ستيفن جاهداً أن يخرج كفّ طفله من ميراث جدّته، فلم تجد محاولاته البائسة نفعاً. وضع الصابون السائل فوق حواف المَزهريّة، ثم حرّك رسغاً صغيرة برفق، لكنه توقّف في الحال عندما بدأ نشيج صغيره يعلو. ذهب الأب إلى المطبخ وعاد بزجاجة من زيت الطهي وصب نصفها فوق ذراع الصبي، فتدفق الزيت حتى غطّى أصابع الفتي المحشورة هناك. لكن يد الطفل ظلّت عالقة مع بعض الخدوش والزيت.

ولم يكن هناك بدّ من التضحية بكنز العائلة الثمين. ذهب ستيفن إلى الكاراج ليحضر مطرقة صغيرة يُهشّم بها حلق المَزهريّة، وهو يدمدم مُتذمّراً: “لو استطاع أحد إخراج كفّ روبرت من دون أن أضطر إلى تحطيم المَزهريّة لأعطينه دولاراً”. وهنا، سحب روبرت يده بخفة وسلاسة من حلق المَزهريّة وكأن أزمة لم تكن. وعلى إثرها، تناثرت المَزهريّة نتفاً صغيرة فوق رخام الغرفة الأبيض. وأدرك الوالد الذاهل حين استقر بين قدميه بنس فضي حقيقة الأمر.

كان روبرت يقبض بكفّه على بنسٍ وقع منه داخل المَزهريّة، ولم يكن يريد أن يخرج بكفّ حنين، فظل مُمسكاً بالبنس، ولم يُدرك أنه لو بسط يده لخرجت كفه من دون الحاجة إلى صابون أو زيت. لو علم روبرت أن أباه قادرٌ على إخراج بنسه التافه من دون الحاجة إلى حشر يده أو تحطيم مزهرية أمه، لما ظل قابضاً على جمر البنس، ولو أدرك أن مزهرية جدّته أكبر آلاف المرات من عملته الضئيلة، لما ساوم القدر حتى يحصل على دولار كامل.

نقرأ قصة روبرت، ونسخر من قبضته الصغيرة وطمعه المشروع، وتضحيته غير المُبرَّرة .. ونضحك ملء أفواهنا حتى يظهر صدأ أسناننا. لكننا لا نُدرك أننا، ورغم تقدم العمر بنا، وغزو البياض لمقدمات رؤوسنا، نكسر الكثير من تحفنا الثمينة من أجل أمور تافهة لا تستحق أن تقبض عليها أيادينا. تعلّم يا صديقي أن ترخي أصابعك حتى تستطيع أن تُخرجها من حلق التجارب. تعلّم أن الماء الذي يتسرب من بين أصابعك لن تحفظه أوتار كفك المشدودة، وأن كيس الذهب لن يحتاج إلى ضم أصابعك كي يظل في حوزتك. ما كان لك سوف يأتيك، ولو حاربك عليه أهل المشارق والمغارب. واعلم أن الأشياء التي تقاتل من أجلها قد لا تستحق قبضة أصابعك ولا عروقك المشدودة.

لا تتعلّق بشيء أكثر مما ينبغي، فتعلّقك الزائد به يعوق قدرته على النمو، ويمنعك من التفكير في البديل. لا تحبس عصفورا في قفص لأنك تحبه، ولا تُضيّق على شريك حياتك لتمتلكه. فقد علمتني التجارب أننا نفقد الأشياء التي نحبها بقدر حرصنا عليها. أرخِ قبضتيك يا صديقي، فلربما تكون الوظيفة التي تحارب رفاقك من أجلها، أو المشروع الذي تريد تنفيذه من خلف ظهورهم لا يساوي مَزهريّة بقائهم قربك. وربما تكون العشيقة مجرد بنس تافه إذا ما قورنت بزوجة محبة. حاول أن تُثمّن راحة قلبك بشكل أفضل، فهدوء نفسك وانتظام تنفسّك أفضل لك من صراعات داخلية لا يعلم خسائرها إلا الله.

لا تُقبض يديك إن طرق بابك سائل، فلربما جاء إلى بيتك ليبادلك دولاراً ببنس. ولا تكن كبني إسرائيل الذين فضّلوا العدس والبصل على المن والسلوى، فكسروا مَزهريّة الرحمة، وضلّوا من بعد ما أراهم الله ما يُحبّون. تعلّم أن ترخي أصابعك وأن لا تُسرف في توترك، وتعلّم ألّا تلجأ عند كل نازلة إلى أحدهم ليكسر حلق ظروفك القاهرة، فلربما تكون أنت السجين والسّجان. حين ولدتنا أمهاتنا، نزلنا إلى هذا العالم بأصابع مشدودة وكفّ مضمومة على الفراغ، وحين كبرنا، تعلّمنا أن نفرد أصابعنا كلّما أردنا أن نأكل أو نشرب. أصابعك يا عزيزي منقار أهداك أياه الرب لتلتقط هدايا الحياة. فافتح منقارك عن آخره، ولا تجعل كفك مغلولة إلى بنس يحول بينك وبين الحرية، فعطايا الحياة خيرٌ وأبقى.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: Shaer129@me.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى