بين الماء والنار

بقلم راشد فايد*

يَنطبِقُ على المشهد اللبناني الراهن المثل العامي القائل: “ناس إيدها بالمَي وناس إيدها بالنّار”. كيف لا ورئيس الجمهورية، ميشال عون، يُعاقب الإنتفاضة الشعبية باستهلاك الوقت، ويَتجاهَل مطالبها، لا سيّما قيام حكومة تُبرمِجُ بنودَ الإصلاحات التي تعهّد بها الرئيس سعد الحريري. فالمُحتَشِدون في ساحات لبنان سمعوا من ساكن قصر بعبدا خطابين طوباويين، في توصيفه ما يجري، كأن اللبنانيين غافلون عمّا يفعلون، وهو، بدل أن يُحاوِرهم، أُعدّت له دوائر القصر، وربما الأجهزة، وعلى عجل، مجموعة تدّعي هذا الدور. فما أن أعلن رئيس الجمهورية العزم على عقد حوار مع المُنتَفِضين حتى حضرت هذه المجموعة إلى بعبدا وانتهى دورها مع مغادرته، لأنها لم تُمثّل سوى أشخاصها. مع ذلك، كان لا بدّ من حوار، فللرئيس عون موقف مبدئي لا يُنسى (!!) شدّد عليه باستمرار، تحديداً بعد ولادة “إتفاق الطائف”، وبُعَيدَ إهانة أنصاره البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، في العام 1989 في بكركي، لتأييده تسمية المرحوم رينيه معوض رئيساً للبلاد. يومها قال الجنرال، حرفيا: “غبطة البطريرك لازم يكون مثل الأب… شو ما كان الناس غضبانين لازم يستوعبهن”.

لكن الرئيس يوم سلّم  بما كان “يحضّ” البطريرك عليه، حوّل قصر بعبدا إلى موقع انقسام أهلي، ومقراً حزبياً، وهو ما لم يفعله أي رئيس سابق للجمهورية اللبنانية منذ الإستقلال، وكي لا تشتبه الصورة على أحد ما، ألقى الصهر، جبران باسيل، الذي يمون، خطاباً من باحة المقر الحزبي- العائلي المُستَجِد، خلافاً لكل ما يوحي باحترام المقر ودوره الوطني الجامع، بحيث تحوّل شعار “بَيّ الكل” إلى نكتة تُشعر سامعها بالمرارة، وبمحاولة إستغبائه.

أعلن الرئيس الحريري إستقالته، قبل 8 أيام من اليوم، وبعد 13 يومًا من الإحتجاجات على الفساد السياسي والإضطرابات الإقتصادية، وجاء خطابه المُتلفز بعد فترة وجيزة من اندلاع العنف في الشوارع، ليُشكّل صدمةً إيجابية، لا سيما عندما هاجم أنصار “حزب الله” و”حركة أمل” المُعتَصمين في الساحات العامة والطرق الرئيسة. وخلافاً لما يقتضيه الحسّ الوطني من تسريع بت الأمور، وإطلاق مبادرة تتجاوب مع انتظارات الناس وتستعجل إعادة عجلة الحياة العامة إلى الدوران، شهد البلد إضاعة وقت، وكأن لبنان في زمن مَلكية لم يعرفها منذ كان، تواكبها تسريبات إعلامية عن محاصصة سلبية يتبنّاها الصهر. فبدل “لي ولك”، سمعنا  “أنا وأنت”، أو “لا أنا ولا أنت”. وفي الموازاة، سعي دؤوب للعودة إلى نظام 1943، حيث لا رئيس للحكومة بل وزير أول، “يهندس” رئيس الجمهورية شكل حكومته، ويُسلّمه قيادتها “جاهزة ومفروشة”، ليصبح سائق حافلة لم يختر ركابها، ولا معاونيه. هذا، على الأقل، ما يتسرّب، عمداً أو عفواً، من كواليس بعبدا، وما لا يُلمح معبر له إلى التحقق.

واقع اليوم، الناس في وادٍ يُفتّشون عن رؤية مُستقبلية لوطن لا يريدون غيره، والطاقم السياسي يُنقّب عن أناه في وحول الإنتهازية.

  • راشد فايد صحافي ومُحلّل سياسي لبناني، وكاتب رأي في صحيفة “النهار” اللبنانية. يمكن التواصل معه على fayed@annhara.com.lb

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى