حين يتحكّمُ “البرامكة الجدُد” بالـحُكْم والدولة

بقلم هنري زغيب*

 في تاريخ العبّاسيين محطّة لافتة لـهارون الرشيد تروي قضاءَه على البرامكة في واقعةٍ شهيرةٍ (أَول صَفَر 187هـ. – 29/1/803م.) حفظَتْها لنا كتُب التاريخ بــ”نكبة البرامكة” لأَنها أَنهت أُسطورتهم وأَزالت دولتهم وبدَّدت سطوتهم بعدما تحكَّموا فترةً طويلةً بـمقاليد الحكم وأُمور الخلافة وبتعيين محاسيبهم فيها.

ووجدتُ في كتاب “تاريخ بغداد” للخطيب البغدادي تفاصيل تلك “النكبة” حين “استفحل أَمر البرامكة فبَطَش بهم الرشيد قتلًا وتشريدًا ومصادرةَ أَموالٍ نهبوها من خزانة الدولة حين كانوا وزراء وأَصحاب الأَمر والسلطان”. ذلك أَن “نفوذهم تعاظَم حتى بدَا الخليفة في مظهر العاجز إِذ استبدُّوا بالحُكم من دونه، وتجرَّأُوا عليه فتحكَّموا بأُمور الدولة وتغلغلوا في شُؤُونها واجتمع لهم  كثير من الأَنصار والأَعوان، فترصَّدهم الرشيد متَّبعًا حكمة الكتمان، مهيِّئًا عنصر المفاجأَة، إِلى أَن أَلـحق بهم الضربة القاضية”.

هذه الواقعة العبّاسية تكرَّرت في التاريخ القديم، وشهدناها في التاريخ الحديث مع حُكَّام قرَّبوا أَزلامهم واستبَدُّوا وبَطُرُوا وبطشوا بالرعية حتى انتفضَت عليهم الرعية ودهْوَرَتهم عن كراسيهم ساحقةً إِياهم إِلى أَسوإِ حضيض. هذه ماري أَنطوانيت ظلَّت تتدخل في شُؤُون الحكْم متسلِّطة على زوجها لويس السادس عشر في القصر وتعيِّن فيه أَزلامها ومَـحاسيبها والحاشية، حتى انتهى الأَمر بها إِلى الـمقصلة.

وهذه هيلينا تشاوشسيكو ظلَّت تَبْذُخ على بَطَر فاحش في القصر حتى هربَت مذعورةً مع زوجها نيقولاي تشاوشِيسْكو وانتهَت معه مقتولةً مثلَه برصاصة في الرأْس على جدار ثكنة عسكرية.

وتلك أَيضًا أَجهزة الاستخبارات زمان الإتحاد السوﭬـياتي دخلَت كالعنكبوت السامِّ في مفاصل الدولة وسيطرَت على قرارها، كما يحدُث في معظم الأَجهزة حين تتحكَّم بالحكم وبالدولة عوَض أَن تكون سندًا لها.

تطول اللائحة عن أَجهزةٍ وبطانةٍ لدى حُكَّام بطَشوا بشعوبهم وسحقَوها بدِيكتاتورية توتاليتارية جارفة، وعلَت في الساحات تماثيلُهم وصوَرُهم، وانتشرَت في الشوارع والجادات أَسماؤُهم، وتحلَّق حولهم الـمدَّاحون شِعرًا وخُطَبًا ومحاسيبَ وأَزلامًا ومنتفعين ونوابًا في كتلة ووزراء في تكتُّل ومستشارين وحاشية وعائلةً حاكمةً ومقرَّبين في القصر يتدخلون في مفاصل الدولة هيمنةً وتعييناتٍ واستفرادات، وفي ليلة يغيب فيها الصلَف وتُشرق فيها الحقيقة، ينهالُ الشعب تكسيرًا تلك التماثيل، ومحوَ الأَسماء من الشوارع، ويتوارى الـمدَّاحون، ويسقط البرامكة الجدُد من قصورهم إِلى بؤْرة الذل والشماتة.

في كل حقبة من التاريخ، محطات تذكِّر بأَنْ “لا ظالـمَ إِلّا سيُبلى بأَظلم”، وبأَن “على الباغي تدور الدوائر”، وبأَن “لو دامت لغيرك ما آلت إِليك”، ولكنَّ الأَبلغ تذكيرًا أَنَّ الـمِقصلة التي  انهالت على رأْس لويس السادس عشر لن تكون وحيدةً في التاريخ، وقد تتكرَّر في أَيِّ زمنٍ يستولي فيه “إِنكشاريون عصريون” أَو “برامكةٌ جُدُد” على مفاصل دولة يستضعفونها، حتى يجيْءَ يوم تُنصَب لهم مِقصلةٌ عصريةٌ في أَيِّ شكلٍ، ماديٍّ أَو شعبيٍّ، من أَشكال الـمِقصلة.

 

هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى