سَحَر طَه الغائبة الحاضرة

بقلم هشام جابر*

دَخَلَت عائلتنا من دونِ موعد. ولم تكن بحاجة إلى تأشيرة دخول. ومن غير تكليف، أرخت بظلّها ولُطفِها ودماثتِها على الجميع منذ أتى بها سعيد حاضناً بين جناحيه من ديارها، الى الديار، التي أمست ديارها بامتياز.

هذه هي سَحَر، العلامة الفارقة، والنموذج المُحتَذى بصبرها، وإيمانها، وشجاعتها.

تحدّاها المرض الخبيث، فقَبِلت التحدّي. لم تستسلم، ولم تُذعِن، ولم تَخشَع. وانتصرت عليه في أكثر من جولة.

لم يكن المرض أقسى على سَحَر من جرح العراق النازف. وقفت مع شعبه، بمواجهة جبروت الحاكم، وأمام الإجتياح الغاشم. ووقفت مُنتصِبة، مع أبنائه، صارخةً بوجه لصوص بغداد الجُدد. وكان حضورها بارزاً في كل مناسبة، وطنية كانت او قومية، إجتماعية كانت أو إنسانية.

حمّلتها مأساة العراق وما يحدث فيه أوجاعاً إضافية على أوجاعها. تألمت وبكت لفقدان الموصل. ومن ثمّ فرحت بعودتها وغنّت. ولم تنسَ فلسطين السليبة، فخصّتها بمكانٍ مُتقدّم في أناشيدها وأغانيها وكتاباتها.

أحبّت فنّها إلى حدّ الوَلَه، وأحبّها هذا الفن الى حدّ العشق.

عندما سمعتُها تنشد “يام العباية… حلوة عباتاتش”، رأيت العباءة تُشارك أناملها بالعزف وحنجرتها بالغناء.

لا يُمكن أن يُنَصَّب شاعراً أو فناناً او أديباً بمرسوم أو قرار، جمهورياً كان أم ملكياً. إنها الموهبة التي تمتعت بها سَحَر، وتجسّدت ثلاثة في امرأة. فالموهبة هبة من الخالق للمخلوق، وتنميتها جهد من المخلوق بمعونة الخالق.

عراقيةٌ أحبّت بلاد الرافدين، وتعلّقت بجذورها. وحنينها الى موطنها الأول كان دائم الحضور. كما أحبّت لبنان الأرزة، وتفيّأت بأغصانها، فأمسى لبنان في عقلها هوية، وفي قلبها قضيّة.

كانت سَحَر حورية عربية عابرة للحدود والهويات وجوازات السفر وخطوط “سايكس بيكو”. فكان عالمها… العالم الناطق بالضاد. وجمهورها في كل بقعة في هذا العالم.

بماذا أصفها بعد؟ غمامة أمطرت في زمن الجفاف والقحط، غمامة جاءت من سماء العراق، فأمطرت خيراً على أرض لبنان. وتنقلت في أجواء الوطن الكبير، مُستمرّةً بالعطاء، لا تغيب برهة إلّا وتعود.

الشهادات لديها تشهد لها، والأوسمة على صدرها تتشرّف بها.

حوّلَت بيتها ومسكنها الى منتدى للفنون الجميلة، صالون أدب وفكر وشعر. بات مقصداً للنخبة ومدرسة للموهبة.

جالت بلاد العرب وغير العرب. عرّفت هؤلاء بأصالة هذا الفن، وأحيت لديهم ذاكرة كانت تخبو وكادت تنطفئ.

سَحَر كانت جميلة بلا شك، رقيقة بلا ريب، وصوتُها الصادح العذب كان يُبكي ويُطرِب في آن.

يقولون وراء كل عظيم امرأة، ونقول وراء كل عظيمة رجل. وسعيد طه كان ذلك الرجل. ذلك الجندي المجهول؟ أم العارف والمعروف؟ الذي عمل في الخفاء والعلن، وكان خير معاون ومُعين لتلك العظيمة.

عندما اشتد عليها الحصار وأطبق لم تستسلم، بل أشهَرت ما تبقّى لديها من وسائل دفاع، أوّلها كان الإيمان بالله وحكمته وقراره، ثم الثقة بالنفس التي عجز “الخبيث” عن أن يطالها.

ولما جاءت ساعة الرحيل فَرَدت جناحيها بكل هدوء وانطلقت، وارتقت محلقة مرتفعة الى جنان الخلد حيث ينتظرها الملائكة والأبرار والصدّيقون.

رَحَلت سَحَر طه ولم تقل وداعاً، لأنها تعلم انها باقية. رحلت تاركةً أثراً نفسياً، وإرثاً ثميناً، ونهراً دافقاً ترشف منه الأجيال ولا ينضب.

قال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “إذا مات إنسانٌ، إنقطع عنه عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، وعلم كان علّمه للناس، فانتفعوا به، وولد صالح يدعو له”.

وصَدَقة سَحَر طه، لم تكن مجرد مال يُصرَف، أو ماء في سبيل يُشرَب، بل ما يُغذّي النفوس، ويُغني العقول، ويُطرب الآذان رفيعاً، راقياً، وعلماً، وتراثاً تنهل منه الناشئة وتنتفع. وتركت مثالاً يُحتذى في الصبر، والشجاعة، والايمان، والتحدّي.

كما تركت ذرية صالحة، من خلال ولديها، تدعو لها، ويدعو لها الأصدقاء والأحباء من خلالها.

هنيئاً لمَن لم يعرف سَحَر الإنسانة، بفقدانها هو أقل وجعاً، وأخف ألماً. وهنيئاً لمَن عَرَف سَحَر الفنانة، فهو لا يزال ينعم بما تَرَكت من أثر وإرث، يستحضرها كما يستحضر الحنين، يدعوها فيجدها حاضرة ويُناديها فتُلبّي النداء.

  • العميد الركن الدكتور هشام جابر، كاتب ومحلل سياسي واستراتيجي لبناني، وهو رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والعلاقات العامة في بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى