هل مكاسب الكرملين في الشرق الأوسط مُستَدَامة؟

لم تتوقّع إلّا قلّة في الغرب أن تتدخّل روسيا عسكريّاً في سوريا وتحمي الرئيس السوري بشار الأسد من سقوطٍ وشيك، وخصوصاً بعد تراجع اقتصادها وتورّطها المُسبَق في حرب في أوكرانيا. ويختلف التدخل نفسه أيضاً عن سلوك الكرملين المُعتاد، فقد كان هذا الانخراط العسكري المحدود المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالديبلوماسية القسرية والعامل مع الشركاء الإقليميّين، هو حملةَ قصف جوي وقوّةً بحريّة، عوضاً عن معركة تقليدية تدعمها قوات برّيّة. ولذلك، طرح المحللون وصانعو السياسات في الغرب أسئلة لا حصر لها، وربما كان أكثرها تواتراً: ما هي المرحلة النهائية [أو نهاية اللعبة] لروسيا في الشرق الأوسط؟ وهل المكاسب التي حققتها حتى الآن مُستدامة؟

 

مؤتمر سوتشي: أعطى دوراً قيادياً للروس

 

بقلم ديمتري فرولوفسكي*

شكّلت الحملة العسكرية في سوريا نقطة تحوّل لظهور روسيا مرة أخرى كقوة في الشرق الأوسط. من خلال الإستفادة من الفرص التي أتاحتها الإخفاقات الغربية، نجح النهج التكتيكي للكرملين في تحقيق مكاسب في جميع أنحاء المنطقة، على الرغم من أنها قد تكون محدودة ويُمكن عكسها – وموسكو أكثر عرضة وضعفاً – بسرعة أكثر مما يُعتقَد غالباً.

يُمثّل واقع ما بعد أزمة القرم وانهيار أسعار النفط نقلة نوعية للسياسة الخارجية الروسية. التقارب مع الغرب، والذي بدا وكأنه مبنيّ على أساس متين منذ زمن البيريسترويكا، وقع ضحية لطموحات الكرملين العالمية المتزايدة وسياساته الرجعية. إن سوريا، التي مزّقتها الحرب وأصبحت في حالة من الفوضى وساحة لعدد كبير من الجماعات المسلحة التي تقاتل بعضها البعض، برزت كمنصّة مثالية لروسيا لتعزيز رأسمالها السياسي الدولي بعد الفشل في شرق أوكرانيا. في النهاية، نجح الرهان وتحوّل إلى نصر كبير للكرملين.

في العام 2015، أتاحت سوريا للجيش الروسي إختبار تكتيكاته العسكرية وعرض أحدث تقنياته، مع تعزيز مكانته الجيوسياسية بشكل فعّال في الوقت عينه. ومع عدم وجود قوة في الساحة على مستواه، تم تحديد نتائج الحملة مُسبقاً. لقد شجّع التراجع اللاحق للولايات المتحدة من الشرق الأوسط تحت إدارة دونالد ترامب الكرملين على أخذ ما يريده ببساطة.

إستكملت روسيا مكاسبها على الأرض بعلاقاتها الديبلوماسية المتطوّرة مع القوى الإقليمية الكبرى التي ضمنت حصصاً في سوريا. ولتعظيم مكاسبها، إستخدمت موسكو بمهارة استراتيجية وساطة محايدة، تعمل كشريك للجميع وغير صديقة لأحد. وقد شمل هذا النهج أيضاً دور الكرملين الأوسع – الذي ادّعاه – بأنه الوحيد القادر على إعادة الإستقرار والقضاء على فوضى ما بعد “الربيع العربي”.

من الصعب القول ما إذا كانت موسكو قد توقّعت مثل هذه النتيجة الإيجابية عندما شاركت لأول مرة في سوريا قبل أربع سنوات. وقال الرئيس فلاديمير بوتين في وصفه للعائد على المخاطرة التي تحمّلتها روسيا في الشرق الأوسط، إن الإتجاه الصعودي أصبح أكبر مما توقّع، وسمح لروسيا بإعادة الإستقرار إلى الوضع في المنطقة وإقامة علاقات عمل جيدة مع جميع البلدان. ومع ذلك، بإلقاء نظرة عبر المنطقة – من دعم روسيا للرجل القوي في ليبيا خليفة حفتر، وأفضل علاقات لها مع القاهرة منذ عقود، إلى استثمارات بمليارات الدولارات من دول مجلس التعاون الخليجي، واستخدامها لشركات عسكرية خاصة في السودان – كان عدد قليل من المُحلّلين يتوقع أن تستطيع موسكو لعب مثل هذا الدور الرئيس اليوم.

وجد إستطلاعٌ للرأي العام الذي أجرته مؤسسة “خدمات زغبي للأبحاث” (Zogby Research Services) في واشنطن زيادة ملحوظة في “تفضيل” (favorability) روسيا في جميع أنحاء الشرق الأوسط منذ العام 2016، بزيادة متوسطها 13 نقطة مقارنة بالإستطلاع السابق. ووفقاً ل”استطلاع رأي الشباب العربي 2018″، وهو أكبر عيّنة من الرأي العام بين الشباب في الشرق الأوسط، تُعتبر روسيا بشكل متزايد أكبر حليف غير عربي، حيث يرى 20٪ من المُستطلَعين أنها أفضل صديق.

لكن، على الرغم من أن إنجازات الكرملين لا جدال حولها، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو ما إذا كانت هذه المكاسب مُستدامة. وتكمن الإجابة في تصوّر روسيا لدورها الجديد في الشرق الأوسط ودرجة المُعامَلة بالمثل في جميع أنحاء المنطقة.

إن فرض العقوبات الدولية وما تلاها من الركود الاقتصادي المحلي غيّرت السياسة الخارجية الروسية بشكل كبير، ومن الواضح أن البلاد بدت ضعيفة وغير قوية نتيجة لذلك. كان اقتصاد روسيا أكثر استقراراً وجاذبية قبل أزمة القرم مما كان عليه بعدها. علاوة على ذلك، إذا كانت تريد حقاً أن تلعب دوراً كقوة رائدة في الشرق الأوسط، فإن لدى موسكو فرصة جيدة فعلياً للقيام بذلك – ويُمكن القول أنها كانت ستتمكن من إدارتها من دون الحاجة إلى وضع الكثير من الأحذية على الأرض في سوريا.

لقد شجّعت تجربة “ميدان” في أوكرانيا القيادة الروسية على إحداث ثورة في سياستها الخارجية، فيما كانت البلاد تضطلع بأدوار جديدة، بما فيها المدافعة عن القيم التقليدية، والترويج لعالمٍ متعدد الأقطاب، وحماية أولئك الذين يعانون من الإمبريالية الغربية الجديدة المزعومة.

على الرغم من أن عدداً من الجماعات اليمينية والمنحازين من جميع المشارب عارضوا القِيَم الليبرالية حيث بدت روسيا الجديدة وكأنها مجتمع مثالي، فإن الصورة الجديدة للبلاد قد أحبتها وتلقّفتها جيداً منطقة الشرق الأوسط. في فترة قصيرة من الزمن، تحوّل بوتين من منبوذٍ وعدو الأمة إلى رجل قوي قادر على إنقاذ البلاد من الفوضى واستعادة مكانتها العالمية، مع توفير بديل من الديموقراطية على النمط الغربي التي إعتبرها كثيرون وعلى نطاق واسع  سبب مصائب “الربيع العربي”.

لقد تحسّنت صورة روسيا في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ولكن في معظم أنحاء العالم يُنظر إلى موسكو على أنها تتحرك بشكل متزايد بعيداً من المدار الأوروبي وباتجاه استبدادي أكبر. على الرغم من أن السياسة الواقعية لبوتين قد نجحت، إلا أنها لم تستطع إعادة إحياء سياسة القرن التاسع عشر من الرماد، بل شهدت عودة روسيا إلى الوراء.

المصافحة بين الرئيس بوتين وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وعلاقات موسكو الوثيقة مع الرجال الأقوياء في مصر وتركيا كلها تُلقي بظلالها المظلمة على روسيا الحديثة، ويبدو أن البلاد ليس لديها شيء مشترك مع أوروبا، بصرف النظر عن قربها الجغرافي. وعلى الرغم من أن هذه الصورة قد تكون لها فوائد قصيرة الأجل عندما يتعلق الأمر ببناء الجسور مع الأنظمة والمجتمعات المماثلة، إلّا أن جاذبيتها في المدى الطويل تبدو ملتبسة ومشكوك فيها إلى حد ما.

في حين أن موقف روسيا الحالي مفيدٌ في تعزيز علاقاتها في الشرق الأوسط، فمن غير الواضح إلى متى سعمل. لا يُمكن مقارنة شعبية روسيا بشعبية المجتمع الليبرالي الغربي، الذي لا يزال يمثّل نموذجاً يُحتذى به بالنسبة إلى الكثيرين، ولا يُضاهَى من حيث قوته الصلبة والناعمة. نتيجة لذلك، في حين أن عودة روسيا إلى الشرق الأوسط كانت ممكنة بسبب تراجع الغرب، إلا أنه يُمكن عكسها بالسرعة نفسها إذا تبنّى الغرب موقفاً أكثر نشاطاً في المنطقة. إذا كان الأمر كذلك، فإن الهامش الراهن لروسيا لن يكون ذات فائدة تُذكَر.

بعبارة أخرى، تمكّنت روسيا من توسيع موقعها في الشرق الأوسط، لكن عندما يتعلق الأمر بتأمين دور حقيقي كقوة إقليمية، يبدو من غير المحتمل أن يكون لدى الكرملين أي أوراق رابحة متبقية. علاوة على ذلك، ستبدأ رياح التغيير في النفخ مرة أخرى في مرحلة ما، وفي المدى الطويل، قد يصبح تشابه موسكو المتزايد مع أنظمة الشرق الأوسط في الواقع جرحاً ذاتياً. إلى جانب النمو الإقتصادي الضعيف وزيادة الضغط العام المرتبط بالفساد الداخلي الواسع النطاق، من الصعب أن نتخيل أنه، عدا قوة الكرملين الصلبة وبعض العلاقات الشخصية على مستوى القيادة، هناك عوامل أخرى قادرة على الحفاظ على مكاسب روسيا في الشرق الأوسط.

  • ديمتري فرولوفسكي محلل سياسي ومستشار في السياسة والاستراتيجية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وجهات النظر المعروضة في هذه المقالة هي خاصة به.
  • كُتِبت هذه المقالة بالإنكليزية وعرّبها قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى