“كالنخلة يتسامى الصِدِّيق… ويرتفع كالأَرز في لبنان”

بقلم هنري زغيب*

 

قرأْتُ قبل أَيَّامٍ في زاوية “أَسرار الآلهة” من جريدة “النهار” اللبنانية خبرًا في سطرَين سَطَّرا إِيـحاءً عن رئيس أَساقفة عُيِّنَ حديثًا في سُدَّة الـمسؤُولية، باع سياراتٍ فخمةً فارهةً كانت في حيازة أَبرشيَّته، مكتفيًا بسيَّارةٍ متقشِّفةٍ تكفيه للتنقُّل من دون غطرسة. أَخذني ذانكَ السطران إِلى أُسقف روما خورخي ماريو بِرغُوليو الذي، عند انتخابه البابا السادسَ والستين بعد الـمئَتين، اتخذ اسم فرنسيس تيمُّنًا بفرنسيس الأَسيزي الذي أَمضى حياته في خدمة الفقراء والزهد والصلاة، وهو الطريق الذي سلكَه بعده شربل، ناسكُ عنايا، فكان الصمتُ سِفْرَه الوحيد وبَلاسُ الشَعر ثوبَه الوحيد، على خُطى الناصريِّ الذي مشى دروبًا من لبنان حافيًا إِلَّا من خطَوات الإِيمان على دُروب الإِيمان.

وقرأْتُ قبل أَيَّامٍ قرارَ الـمسؤُول الأَعلى عن كوكبةِ مدارسَ خاصَّةٍ بأَلَّا ترفضَ أَيَّ طلبٍ لتسجيل التلامذة بـحجة عجْز الأَهل عن تسديد الأَقساط ولو مُـجَدْوَلةً على مراحل، فأَخذَني هذا القرار إِلى ما يعانيه الأَهل من صعوباتٍ ماليةٍ جعلَت عددًا كبيرًا منهم يسحبون أَولادهم ويترحَّلون بهم إِلى الـمدارس الرسمية عجزًا عن إِكمال تحصيلهم في مدارسَ خاصةٍ، بعضُها يُـجحِف في رواتب الـمعلِّمين، وبعضُها الآخر يتباكى على خسارة ليست فادحة بل مبالغ رابحة أَقل مما كانوا يُـخطِّطون له عند احتسابات كل موسم دراسي.

هذا الأَمر، بين التخلِّي عن أَرستوقراطية الترف في الـمَظاهر الرعوية، وعن فُحش الأَرباح في الـمؤَسسات التعليمية، هو موقفٌ جريْءٌ من داخل الدين، على هدْي الـمعلِّم الذي قال “مَـجَّانًـا أَخذتُم مَـجَّانًا أَعطُوا”، وقال أَيضًا “دَعُوا الأَطفال يأْتون إِلـيَّ ولا تَـمنعُوهم”، وذكر لوقا الإِنجيلي في الفصل 16 (الآيات 13 إِلى 17) أَن يسوع قال لتلاميذه: “لا العبدُ يَقْدِرُ أَن يَعبُدَ رَبَّين، ولا تَقْدِرُون أَن تَعبُدُوا اللهَ وَالـمَال”، وانتهر الفرِّيسيين قائلًا: “تَتَظاهرون بِالـبِــرّ أَمام النَّاس لكنَّ الرَفيعَ عند النَّاس رجاسَةٌ أَمام الله”.

وهنا أَخذتْني الذاكرة إِلى سنة 1736 عند انعقاد الـمجْمع اللبناني في كنيسة دير سيدة اللويزة/زوق مصبح برئاسة البطريرك يوسف الخازن وحضور مندوب البابا بندكتوس الرابع عشر يومَها القاصد الرسولي الـملفان يوسف سمعان السمعاني الذي خطَّ بيَدِه وقائعَ جلسات الـمجْمع فاعتَبَره البابا “مَـجْمعًا شرعيًّا مقرراتُه دستورٌ إِصلاحيٌّ مُلزِمٌ أَبناءَ الكنيسة الـمارونية”، وفي رأْس هذه الـمقررات الـمُلْزِمَة: “التعليمُ الـمجَّاني الإِلزامي للصبيان والبنات”.

أَعود من ذاكرة الماضي، لأَكتشفَ أَنَّ خلْع أُبَّـهة الشَكلِ الإِكليروسي وصَلَفِ الـمضمون التربوي، فضيلتان حقَّقَهُما رُجلُ دينٍ واحدٌ هو أُسقف بيروت الجديد بولس عبدالساتر.

لا أَعرفُه، أُسقف بيروت، لكنني أَعرف شبيهَين له لدى “كتاب الـمزامير”:

الأَول في الآية 12 من الـمزمور 92 وفيها: “كالنخلة يتسامى الصِدِّيق، ويرتفع كالأَرز في لبنان”،

والآخَر في الآية 7 من الـمزمور 72 وفيها: “يُزهرُ في أَيامه الصِدِّيق، ويَكثُرُ السَلام… إِلى أَن يضمحلَّ القمر”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى