كيف تُساهِم هيكلية الإقتصاد الليبي في إثراء الميليشيات

يبدو أن أسباب استمرار القتال الدائر في ليبيا ليست سياسيةً فقط بل أن هناك مصالح مالية ضخمة للميليشيات تُغذّيه حيث تساعدها هيكلية الإقتصاد الليبي القائمة على الدعم والإعانات والتي لم تتغيّر بعد رحيل معمر القذافي. 

أبرز الميليشيات الموجودة في طرابلس

بقلم جيسون باك*

يتغاضى صنّاع السياسة الدولية إلى حدٍّ كبير عن دور الفساد كمحرّك رئيس للعنف في الصراع الحالي في ليبيا، ويعتبرونه بدلاً مُجرّد نتاجٍ جانبي ثانوي له. إن النقاش الرفيع المستوى حول ليبيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر أيلول (سبتمبر) والمؤتمر الدولي المُقترَح للمتابعة الذي ستستضيفه ألمانيا، في تشرين الأول (أكتوبر) أو تشرين الثاني (نوفمبر)، يُعتبَران بمثابة فرصتين مِثاليتين لتصحيح هذه الرقابة.

في حين أن الدول الأجنبية التي تُقدّم الأموال والأسلحة إلى مختلف أمراء الحرب والميليشيات الليبية لها دوافع إيديولوجية وسياسية وأمنية واقتصادية، فليس من المبالغة القول أن الميليشيات الليبية نفسها تتقاتل أساساً من أجل المال. في نهاية المطاف، فإن عائدات النفط المتراكمة هي مصدر ثروة ليبيا، لكنها مُوَزّعة بطرق مختلفة عُرضةً للإنتهاكات. هناك ثلاث قنوات أساسية أدى الميراث الهيكلي لما بعد معمر القذافي إلى بروز الميليشيات: دفع الأموال إلى رجال الميليشيات مباشرة، إعتماد إئتمان إحتيالي، وتهريب البضائع المدعومة. لكل قناة من هذه القنوات مصدرها في العاصمة طرابلس. تُدفَع إيرادات النفط إلى البنك المركزي الليبي في طرابلس، وتُحَدَّد الإعانات والرواتب وتمويلها من طرابلس، ويتم إصدار إعتمادات الإئتمان من البنك المركزي في طرابلس.

الوضع الراهن يُعزّز ثروة الميليشيات

إن مركزية القوة الإقتصادية في طرابلس تخلق الشروط المُسبَقة لديناميكية الحرب الأهلية الحالية للسيطرة على العاصمة والتي مجموعها صفر. كتب آخرون بشكل مقنع عن ميليشيات طرابلس ك”كارتل” إقتصادي، وأعتقد أن الوقت قد حان لتوسيع هذا الوصف: يجب إعتبار جميع أمراء الحرب الرئيسيين وبعض المسؤولين الأساسيين الذين يسيطرون على السياسات غير الكفوءة للإقتصاد الكلي في ليبيا بمثابة “حزب الوضع الراهن”. وقد بدأ كبار مسؤولي الأمم المتحدة الإشارة إليهم علانية على هذا النحو.

يستفيد أفراد هذا “الحزب” من النزاع ويمقتون فكرة إيجاد حلّ له. لقد تم تقريباً تعطيل شبكات رعايتهم المُربحة بسبب المؤتمر الوطني للأمم المتحدة الذي كان من المقرر عقده في منتصف نيسان (إبريل) 2019. وشنّ الجنرال خليفة حفتر هجومه على طرابلس لتخريب ذلك المؤتمر عمداً. منذ اندلاع القتال، أدّى تحوّل النزاع لمأزق طويل الأمد إلى تعزيز هيمنة بعض الجماعات المسلّحة على قطاعات مُحدَّدة من الإقتصاد الليبي. على سبيل المثال، إستفاد أحد أهم القادة في طرابلس، عماد الطرابلسي، من القتال لتعزيز قبضته على الضواحي الغربية المُهمّة إقتصادياً. وعلى العكس، بسبب فشل هجوم حفتر في اختراق جنوب طرابلس، وعدم تمكّن قواته من تصحيح عجزها المالي من طريق إغتصاب شبكات الإستغلال الحالية لأعدائها، تعاقد حفتر على جزء كبير من القتال على طرابلس مع حلفائه المحليين – ميليشيات “الكاني” من ترهونة. وتمتلك هذه المجموعة مصادر تمويل متنوعة خاصة بها وتواصل القتال إلى جانب حفتر من أجل حمايتها.

كيف يعمل الوضع الاقتصادي الراهن؟

دعمت ليبيا منذ فترة طويلة مجموعة من السلع والخدمات. في بعض الأحيان يتم دعم كلٍّ من المدخلات والمخرجات. دعونا نأخذ مثال الخضروات الليبية. يحصل المزارعون على إعانة مالية للطماطم (البندورة)، لكن الماء والكهرباء والبنزين التي يستخدمها المزارعون في إنتاج الطماطم (البندورة) تحصل على دعم كبير أيضاً. قد يصل سعر الطماطم الليبية إلى المستهلك أقل من عُشر ما يُكلّف إنتاجها. وينطبق الشيء نفسه على الصلب والألومنيوم الليبيين، اللذين يستفيدان من الإعانات لكلّ من مدخلاتهما والكهرباء اللازمة لإنتاجهما. ولكن نظراً إلى أن وزارة الإقتصاد الليبية لا تدرس الأمور بهذه الطريقة، فإن تكاليف الإنتاج الفعلية لجميع السلع في السوق الليبية عادة ما تكون غير معروفة.

لكن من المعروف أن ليبيا من المحتمل أن تكون أكثر بلد يُقدّم دعماً على وجه الأرض (على الرغم من أنها غير مُدرَجة في بيانات البنك الدولي حول هذا الموضوع)، وأن الدعم المالي يُخبَز بالطريقة التي ترتبط بها المؤسسات الاقتصادية الليبية مع بعضها البعض وبالتالي لا يُمكن بسهولة قياسه كمّياً. تحصل هذه المؤسسات على قدر كبير من المال من البنك المركزي الليبي أو لها الحق في الحصول على سلع مدعومة أو مجانية. كثيراً ما تفتقر المؤسسات الليبية إلى موازنات شفافة وتعمل في فراغ خارج أسعار السوق.

إن مستوى الإعانات في ليبيا لا يمكن أن يعمل في ظل نظام تُحرّكه السوق، حيث تتنافس مختلف الهيئات الإقتصادية على جني الأرباح أو إنتاج سلع عامة بأكبر قدر ممكن من الكفاءة. بعيداً من كونه خصوصية غير ضارة، وخيار سياسة إشتراكية، وإرثاً غريباً من عهد القذافي، أو مجرد عدم كفاءة ، فإن نظام الدعم هو المحرك الأساس للعنف والفساد في ليبيا.

عبء تمويل الميليشيات: تهريب البنزين المُكرَّر

تقوم شركة النفط الوطنية بشراء النفط المُكرَّر في الخارج، وتستخدم الشركات التابعة لها لتوزيعه بأسعار مُخفَّضة إلى حد كبير داخل ليبيا. كل هذا يتوافق مع القوانين الليبية الصادرة في عهد القذافي. عادة ما تستولي الميليشيات على هذا البنزين وتُهرّبه إلى الخارج لبيعه بأرباح ضخمة. لا تصل معظم شحنات الوقود الليبية إلى محطة تعبئة حقيقية – وهذا ما يسمى ظاهرة محطات البنزين الأشباح. إن تهريب الوقود المُكرّر هو الذي يوفر حالياً معظم دخل التهريب للميليشيات. إنها مُدمنة عليه، وسعيها إلى الحصول على فرص التهريب هذه يزيد من مستويات العنف لديها.

إن دعم الوقود والكهرباء والغذاء ما هي إلا بعض الأمثلة على كيفية تأثير الإعانات في الحياة الإقتصادية الليبية. ويظل المدى الحقيقي للمشكلة غير معروف حتى من قبل كبار التكنوقراط الليبيين والأكاديميين والخبراء الخارجيين.

إعتماد الإئتمان الإحتيالي

يعتمد إعتماد الإئتمان الإحتيالي على الفجوة بين السوق السوداء وأسعار الصرف الرسمية. عادةً ما يتقدم الفرد بطلب لاستيراد البضائع، ويتم من أجل ذلك تخصيص صرف أجنبي (عادةً ما يكون بالدولار أو اليورو) من قبل مصرف ليبيا المركزي بالسعر الرسمي البالغ 1.3 أو 1.4 دينار ليبي لكل دولار، ولكن بعد ذلك يقوم بتبادل العملة الأجنبية في السوق السوداء حسب السعر الساري فيها بحوالي 4-8 دنانير لكل دولار، وزيادة أمواله ضعفين أو ثلاثة أضعاف حتى بعد دفع الرشاوى اللازمة لتأمين إعتماد الإئتمان الأولي. وهناك طرق أخرى للمشاركة في اعتماد الإئتمان الإحتيالي تنطوي على الحصول على اعتماد إئتمان مشروط باستيراد بضائع، وهذا يعني فعلياً التكليف بشحن حاويات، ولكن بعد ذلك يتم استيراد حاويات مملوءة بالماء أو الحصى وتزييف الوثائق الجمركية.

بالنظر إلى فُرَصِ الإثراء التي يتم الحصول عليها من طريق الحصول على اعتماد الإئتمان، فإن عملية اتخاذ القرارات في البنك المركزي الليبي مُعَرَّضة هيكلياً للرشوة أو الإكراه من الميليشيات التي تسيطر على طرابلس مادياً. إن مثل هذه الإغراءات للحصول على إمكانية الوصول التفضيلي ستستمر طالما أن سعر الدينار في السوق السوداء والمعدل الرسمي يختلفان. في شرق ليبيا، من المعروف أن المُقرّبين من القادة الرئيسيين للجيش الوطني الليبي الذي يقوده الجنرال حفتر يتمتعون بإمكانية الوصول التفضيلي إلى إعتمادات الإئتمان  والسيولة. يرتبط هؤلاء القادة المؤثرون أيضاً بتهريب البشر والبنزين وكذلك صادرات المعادن الخردة غير القانونية. تُستَخدَم هذه الأنشطة ليس فقط لإثراء الأفراد البارزين، ولكن أيضاً لتدعيم التحالفات المحلية الحاسمة. وقد ضاعفت ضريبة العام 2018 على إعتمادات الإئتمان التعقيدات أيضاً من خلال إنشاء ثلاثة أسعار منفصلة للعملة الليبية.

دعم الوضع الراهن

لا يُمكن القضاء على حوافز الإحتيال إلّا بتخفيض قيمة العملة وتعويمها. ولا يُمكن تخفيض قيمة الدينار ما لم يعقد البنك المركزي الليبي إجتماعاً لمجلس الإدارة حيث لم يتمكن من القيام بذلك منذ سنوات لأن الوضع الأمني، كما يزعم، لا يسمح بتجميع أعضاء مجلس الإدارة في مكان واحد. في الواقع، لم يتم تخفيض قيمة الدينار لأن رؤساء بعض المؤسسات الإقتصادية الليبية وكذلك المليشيات وقادة الأعمال والسياسيين الرئيسيين يُشكّلون “حزب الوضع الراهن” المذكور أعلاه. ويستفيد هؤلاء اللاعبون المؤثّرون من الوصول إلى الأموال المدعومة بالسعر الرسمي، تماماً كما يستفيدون من فرص التهريب. إن الليبيين العاديين هم الذين يُعانون لأنهم يضطرون إلى شراء مشترياتهم بسعر السوق السوداء، وثرواتهم تضيع على الإعانات ودعم العملة.

كيف يُمكن لأصدقاء ليبيا الحقيقيين المساعدة

يتطلب الوضع في ليبيا حالياً إجراء تغييرات جذرية في السياسة لإزالة الحوافز الإقتصادية الراسخة للقتال من أجل السيطرة على طرابلس والحفاظ على الوضع الراهن لهيمنة الميليشيات. لا ينبغي أن يُركز مؤتمر ألمانيا المقترح بشأن ليبيا فقط على الموضوع المألوف المتمثّل في الدعم المُخرِّب الذي يُقدّمه الرعاة الأجانب لوكلائهم المحليين والذي ينتهك حظر الأسلحة المفروض من الأمم المتحدة، ولكن أيضاً على الدوافع الإقتصادية الأساسية للنزاع التي يتم التغاضي عنها في كثير من الأحيان.

ينبغي على المؤتمر الألماني والمناقشة الجارية في الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن ليبيا درس كيف يمكن للأجانب أن يساعدوا مصرف ليبيا المركزي على تعويم الدينار والحكومة على إلغاء الإعانات على الفور. في الوقت الحاضر، يُمكن للميليشيات دائماً منع التغيير من خلال مداهمة المكاتب الرسمية أو خطف مسؤوليها، وردع الإصلاحيين المُحتَملين. لم يُقدّم المجتمع الدولي قط مساعدة فعّالة لتسهيل الإصلاحات الإقتصادية وحماية الإصلاحيين. ينبغي لمناقشات الجمعية العامة والمؤتمر الدولي المقترح صياغة خطط ملموسة حول كيفية القيام بالأمرين. من المؤكد أن الطريق إلى الأمام يتطلب تمكين الليبيين العاديين للمطالبة بالتغيير.

على الرغم من أن هناك العديد من الطرق التي يُمكن من خلالها معالجة التهريب، فإن تجربة الدول الأخرى تُشير إلى أنه فقط من خلال القضاء على فروق أسعار الحدود، يُمكن إيقافه حقاً. بالنسبة إلى ليبيا، فإن هذا يعني تخفيض أو إلغاء الدعم على البنزين والديزل. ولكن كيف يمكن بيع هذه الإصلاحات لعامة الناس الذين اعتادوا لفترة طويلة على الوقود المدعوم؟ لا يُمكن كسب حرب المعلومات عندما لا يعرف أحد حجم المنتجات المُكرَّرة التي يتم استيرادها ومقدار ما يصل إلى المستهلكين الليبيين.

ما نعرفه هو أن محطات الوقود في غرب ليبيا تحتوي في كثير من الأحيان على طوابير لساعات عدة، وأن الليبيين يُجبَرون على دفع أسعار أعلى بكثير للوقود في السوق السوداء لأن الميليشيات باعت كل الوقود المدعوم إلى الخارج. وبالمثل، إرتفعت أسعار الضروريات المنزلية على مدى السنوات القليلة الماضية بسبب الإحتيال في إعتمادات الإئتمان. الليبيون العاديون غاضبون وغير راضين من الواقع الذي يعيشونه ويُشكّلون المحرك الأساس للإصلاح. إنهم “الحزب المُناهِض للوضع الراهن”. ينبغي على صانعي السياسة الدولية أن يتجاوزوا “حزب الوضع الراهن” للسياسيين وأمراء الحرب الراسخين وأن يُقيموا تحالفاً مع الشعب الليبي. والجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة هي المكان المثالي لكشف النقاب عن هذا النهج الجديد.

لفترة طويلة، إعتقد صانعو السياسة الدوليون: لا يُمكننا إصلاح نظام الدعم الليبي فيما القتال دائر. يجب قلب هذا المنطق رأساً على عقب: لا يُمكن وقف القتال فيما نظام الدعم مُستمرّ.

  • جيسون باك هو باحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط، ومؤسس مؤسسة “ليبيا للتحليل” (Libya-Analysis LLC)، والمدير التنفيذي السابق لجمعية الأعمال الأميركية -الليبية. وجهات النظر المعروضة في هذه المقالة هي خاصة به.
  • كُتِبت هذه المقالة بالإنكليزية وعرّبها قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى