حكاياتُ البحر  والصيادين من بحَّارة رأْس بيروت

بقلم هنري زغيب*

 

لَفَتَتْني، وأَنا أَعبُرُ كورنيش المنارة على شاطئ بيروت متوجِّهًا إِلى مكتبي في الجامعة، سلسلةُ صوَرٍ مُكَــبَّرَةٍ معلَّقةٍ على أَعناق الأَعمدة ذات المصابيح المشكوكة كحرَّاس البحر على طول الكورنيش.

الصُوَر (بكاميرا مروان نعماني، من إِعداد جمعية “ذاكرة”، في معرض عنوانه “صيادو رأْس بيروت”) منشورةٌ في سياق “مهرجان بيروت للصورة”. ومع المرور، صورةً بعد صورة، تتوالى أَسماءُ بحارة صيادين، بينهم مَن في هذه المهنة منذ أَكثر من نصف قرن، وكأَنَّ هذه الصُوَر ذاكرةٌ تكريمية تُشْرقُها المدينة لصيَّاديها وكفاحِهم اليومي للحفاظ على مهنةٍ توارثوها عن آبائهم وأَجدادهم جيلًا بعد جيل.

هذه الصُوَر – الممتدةُ من أَول الكورنيش شمالًا حتى آخر جل البحر جنوبًا – مقطوفةٌ مشاهدُها من موانئ عين المريسة، جل البحر، المنارة، والدالية. جمالُ ما فيها أَنها تَسرد بصمتها البليغ حَكَايا نوستالجيّةً من تلك البقعة الجميلة على ساحل بيروت، وقصصِ الصيادين وقواربِهم وعِشْقِهم البحرَ وسَحْبِهم شِباكَهم إِلى صخور عتِقَت عليها الأَعشاب الخضراء وما زالت تستقبل تكَسُّر الأَمواج على شخاريبها، فاتحةً مع كلِّ طلة شمسٍ صفحةً جديدة من تراثنا الثقافي البحري تَـخُطُّها كلَّ صباح زنودُ الصيادين السُمر ورواياتُ البحر والبحارة وسهر الليالي على شُرُفات عُرض البحر.

بين تلك الوجوه العتيقة من ذكريات البحر العتيقة، لفتَتْني صورةُ صيادٍ من ميناء عين المريسة قرأْتُ عليها: “عبود محمد، 57 سنة، مارس صيد السمك منذ كان في السابعة والعشرين”. وتحتها عبارة: “كان البحر يْطَعمينا، هلق نحنا عَمْنْطَعميه”.

توقفتُ عند تلك الصورة ووقفتُ على حافة الكورنيش لأَرى ما الذي نُطعِمُه البحرَ، فصدَمَني مشهدٌ مقزِّز: ركنٌ صخريٌّ تتخلله قنوات من مياه البحر، تجمعَت فيه نُفايات من القناني الـﭙـلاستيكية وبقايا أَطعمة وأَكياس وما شابه.

نعم، هذا ما نُطعمه البحر ونَطْعنه بالنفايات، هو الذي يُطعمنا ولا يَطعننا بل يظل سخيًّا بالعطاء.

هذا هو المشهد بين ناس البحر وناس البر: ناسُ البحر أَوفياءُ للبحر، وناسُ البر غيرُ أَوفياء ومن دون حس بالمواطنية، ومسؤُولون لا يتصرفون بحزم مع مَن يخالفون نظام البيئة والنظافة والحفاظ على جمال البحر الذي يَــبُــوس كل لحظة حائط الكورنيش.

حاولتُ تجاوُزَ المشهد المقزِّز، وأَكملتُ طريقي مغادرًا سحابةَ الكورنيش، لكنَّ هدير البحر لم يغادرني: ظلَّ يَـمُدني بأَصداءَ منَغَّمَةٍ من حكايات البحر والبحارة، والقناديل السهرانة معهم في حضن المراكب، ورمْي الشبكة في كَرَم البحر، وسَحْبها سخيةً بـجنى الخبز والسمك وليالي الخير قبل أَن يَطلع صباح البحر على هدوء الكورنيش الـمنتظِر روادَه الـمُشاةَ يَكتُبون بتوقيع خطواتهم إِيقاع المشي الصباحي على رصيف الكورنيش مع تلويحةٍ لوساعة البحر القريبة وامتداد الأُفق البعيد.

تحيةً لرجال البحر. تحيةً لزنودهم السُمر وعافيتهم السَمراء وحكايات البحر والبحَّارة وهدهدة الموج الهادئ على شَطِّ الغالية بيروت، وتتردَّد في بالي قصيدةُ حبٍّ مطلعُها:

لـمّا البحر تبارى     بِـلُولُو وياقوت

قَدَّمْهُن إِســـــــــواره لَنِجْمِةْ بيروت

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: email@henrizoghaib.com أو متابعته على:henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى