ترك أَرضَه الأُولى وسكَنَ اللغةَ الأُخرى

بقلم هنري زغيب*

 

لم يكن مُـخطئًا مُـحرِّرُ مـجلَّة “أَكْـتُـوِيلْ” (Actuel) حين وصفَه (في عدد نيسان (إبريل) 1994) بــ”أَشهر كاتب كَسُول في العالـم”.

ذاك الذي كان يُـمضي نهارًا كاملًا كي يَكتُب جملة واحدة، أَو ليجِدَ كلمة فرنسية تُلائِم فكرته العربية، لم ينشر في حياته الطويلة (95 عامًا) سوى ثماني مجموعات قصصية وروائية. مع ذلك طارت شهرته أَديبًا فرنكوفونيًّا فريدًا، ورجُلًا غريبًا في نمط حياته اليومية.

أَلبير قُصَيري (1913-2008) غادر نهائيًّا أَرض مولده في القاهرة، لكنَّ القاهرة لم تغادره يومًا واحدًا ولا كتابًا واحدًا. بقيَت رُؤَاها في خياله، وبقيَت في صفحاته خيالاتُ ناسها البؤَساء وشوارعها الـمنهَكة بالفقر والأَحياء التاعسة شكلًا ومضمونًا. ومن هذا الوضع الـمذِلّ كانت سخريته اللاهبة على الـمقتدرين والـمسؤُولين عن هذه الحالة، حتى لقَّبَه النُقاد بــ”ﭬـولتير النيل”.

ترك أَرضه الأُولى وسكن اللغة الأُخرى. لم يَعِش طويلًا بؤْس أَرضه الأُم بل عرف طويلًا ﭘـاريس الأَناقة الـمترفة وعاشها 63 سنة في غرفة واحدة (رقمها 58) من فندق واحد (“لا لويزيانا”)، من حي واحد على السين (سان جرمان – الدائرة السادسة)، مترددًا على مقهى واحد (“فلور”)، مُـجالسًا شلَّة واحدة (جان ﭘـول سارتر، سيمونّْ دوبوﭬـوار، هنري مِــلِــر، أَلبير كامو، أُوجين إِيونسكو،…).

منذ مجموعته الأُولى “الـمُهْمَلون من الله” ( 1941 في القاهرة، ثم منعَـتْها السلطات الـمصرية فصدرَت في ﭘـاريس سنة 1946 بإِيعاز من أَلبير كامو ) رسمَ في قصصها الخمس أَجواء القاهرة التي عاش فيها أَول ثلاثين عامًا من حياته، وظل يرسمها في مجموعاته الروائية اللاحقة، معترفًا بأَن “مصر في داخلي، وهي ذاكرتي”، فلم تُبعدْها عنه حياته الـمريحة في باريس، ولا بعُدَت رواياته عن الحالات الإِنسانية الصعبة في بلاده الأُم. واقتصاده الـمحدود في الكتابة لم يُـؤْذِ انتشار الصورة التي رسمها عن بُعدٍ لأَشخاص رواياته فتوسعَت إِلى لغات كتابية وسينمائية أُخرى، عكْسَ مُواطنِه نجيب محفوظ الذي لازم القاهرة وناسَها وأَزقَّتَها ومقهى الفيشاوي.

هذا النمط الروائي في تصوير حياة الـمعذَّبين والـمهمَّشين والـمَنسيين، كما لدى زولا وفلوبير وبلزاك، جعل قُصَيري في طليعة الأُدباء العرب الفرنكوفونيين. التزم قضايا شعبه واهبًا حياتَـها الراهنةَ حياةً أُخرى على الورق بقلمه اللاذع الـمُروَّس الـمغموس بحبر حارٍّ يترجَّح بين السُخط والسُخرية. التقط الـمظاهر الجوهرية في الـمجتمع الـمصري وصاغها في قاموسٍ جديدٍ فصوَّر البيئة الـمصرية بِــلُغة بعيدة عنها. لم يكتب إِلَّا عن مصر وأَشخاصها وأَماكنها، ولم تعرفه مصر بِــلُغتها بل من الترجمة إِلى لغتها.

أَلبير قُصَيري، نزيل الغربة والغرابة داخلَ غرفة نائية، عاش صمتَ البُعاد عن أَرضه الأُم ومات بعيدًا عنها داخلَ ضريح صامت في مقبرة مونـﭙـارناس.

لكن صفحاته النوستالجية عن شعبه وأَرضه الأُمِّ ناصعةٌ في ذاكرة الأَدب صوتًا باقيًا خارجَ كل صمت.

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: email@henrizoghaib.com أو متابعته على:henrizoghaib.com أو  www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى