هل فات الأوان لإنقاذ لبنان من الإنهيار المالي؟

تَسري في لبنان منذ أشهر إشاعات حول انهيارٍ مُحتَمل للإقتصاد ومعه العملة المحلية. في منتصف أيلول (سبتمبر) 2018، اضطر حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، أن يُكذّب رسمياً أخباراً عن استقالته ومرضه. رئيس الجمهورية ميشال عون، تدخّل أيضاً ليصرّح بأنّ الليرة اللبنانية على ما يرام، وبأنّ البلد لا يتّجه نحو الإفلاس. وهما مسألتان مترابطتان فعلاً بالنسبة إلى كل اللبنانيين الذين يعرفون أنّ البلد يعاني من دين عام حاد. والسؤال الآن: هل أن لبنان حقاً أمام إنهيار مالي واقتصادي، وبالتالي إذا كان الأمر كذلك فهل فات الأوان لإنقاذه؟

حاكم مصرف لبنان رياض سلامة: “حان الوقت لوضع رؤية للمستقبل”

 

بقلم جوزيف حبوش*

يبدو أن الأمور تسير من سيِّىء إلى أسوأ بالنسبة إلى الإقتصاد اللبناني. في 23 آب (أغسطس) الفائت، خفّضت وكالة “فيتش” التصنيف الإئتماني للبلاد إلى “CCC”، مما يعني أنها مع وكالة “موديز” قد صنّفتا معاً الآن سندات لبنان على أنها “خردة” (junk). بعد عشرة أيام، في 2 أيلول (سبتمبر) الجاري، أعلن كبار المسؤولين والمصرفيين في البلاد أن لبنان في حالة طوارئ إقتصادية، وقالوا إنه سيتم اتخاذ التدابير الطارئة المطلوبة لمواجهة الوضع.

على الرغم من أن الوضع السياسي والأمني ​​في لبنان كان مُهتَزّاً منذ عقود، إلّا أن نظامه المصرفي وعملته إستطاعا الصمود حتى الآن وبقيا مُستقرَّين. لكن الإقتصاديين والوكالات الدولية حذروا بيروت من أن هناك حاجة إلى إصلاحات إقتصادية ومالية جذرية. لبنان الآن لديه ثالث أعلى نسبة ديون إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم، خلف اليابان واليونان. ويقترب الوقت بسرعة من تعرّض الليرة اللبنانية للخطر، ولن تكون الهندسة المالية للبنك المركزي كافية للحفاظ على استقرار الأمور، مما يثير المخاوف بشأن جدوى ربط العملة بالدولار في المدى الطويل.

تحسّباً لخفض التصنيف الإئتماني، أعلن حاكم مصرف لبنان (المركزي)، رياض سلامة، بأنه تم اتخاذ تدابير إستباقية: “مع ذلك، فقد بدأ [بنك لبنان]، تحسباً، إجراءات لحماية القطاع المالي من تخفيض المخاطر السيادية”.

وفي الوقت نفسه، حذر مسؤول كبير في وزارة المالية، رفض الكشف عن هويته، من أن تصنيف السندات على أنها خردة وغير مرغوب فيها من شأنه أن يخلق “مشكلة كبيرة” للبلاد.

في مقابلة أُجرِيت معه في 4 أيلول (سبتمبر)، قال رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري: “تكمن استراتيجيتنا في تثبيت ومعالجة المشكلة التي نواجهها. والشيء الأكثر أهمية هو عدم التدهور أكثر، أليس كذلك؟”.

كيف وصلنا إلى هنا؟

تاريخياً، إستفاد لبنان من حجم تدفقات وتحويلات كبير من ملايين اللبنانيين في الشتات. لقد تدفقت هذه التحويلات في النظام المصرفي، مما ساعد على تمويل مشتريات البنوك من الديون السيادية. مع استمرار الحكومة اللبنانية في عجزها وإصدار ديون جديدة، كانت هناك حاجة مستمرة إلى كميات كبيرة من التدفقات الخارجية، وكانت البنوك قادرة على جني أرباح ضخمة من دون مجهود كبير. وأصبح حجم النظام المصرفي ضخماً مُقارنةً بالإقتصاد الكلي، حيث وصل إلى حوالي 425٪ من الناتج المحلي الإجمالي.

لكن بدأ هذا يَتغيَّر منذ بضع سنوات، عندما ضربت المشاكل الإقتصادية في منطقة الخليج المهاجرين اللبنانيين هناك بشدة، ووجدوا أنفسهم غير قادرين على إرسال القدر عينه من المال إلى الوطن كما كان من قبل. كان التأثير على بلد الأرز كبيراً، إذ أن المغتربين في الخليج يُمثّلون حوالي خمس الناتج المحلي الإجمالي للبنان. وقد تفاقم الوضع أكثر بسبب الأزمة السياسية التي اندلعت نتيجة للحرب السورية، وأسلحة “حزب الله”، ورفض لبنان دعم تعليق عضوية دمشق في الجامعة العربية. تم استهداف المغتربين اللبنانيين في الخليج ورُحِّل المئات منهم بعد أن صعّد “حزب الله”، المدعوم من إيران، هجماته الكلامية ضد المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.

أثار انخفاض تدفق التحويلات المالية أسئلة رئيسة حول استدامة هذا النموذج وزاد من الضغوط على البنك المركزي. علاوة على ذلك، واجهت البلاد أيضاً سوء إدارة “رهيب” في القطاع العام بسبب سهولة التمويل والفساد. الآن، هناك نمو إقتصادي ضئيل أو معدوم، ولا توجد فرص عمل، وعجز مزدوج كبير في الحسابين المالي والجاري. كانت هناك أيضاً مشكلة في ميزان المدفوعات منذ أن انخفضت التدفقات الخارجية. وخلال خطابه في 16 آب (أغسطس)، قال سلامة إن العجز الكلي للفترة 2012-2018 كان 30 مليار دولار.

الفساد

المشكلة الرئيسة، التي يناقشها الإقتصاديون والمصرفيون والمسؤولون الحكوميون بشكل يومي، هي الفساد. من أجل الحدّ من الفساد والتهرّب الضريبي أو القضاء عليهما بشكل كبير، واللذين تُقَدَّر تكلفتهما على لبنان بحوالي 4.8 مليارات دولار في السنة، هناك حاجة إلى التغيير على مستوى السياسة والحكومة. ومع ذلك، فإن غالبية الطبقة السياسية الحالية في لبنان كانت في السلطة منذ منتصف أو نهاية الحرب الأهلية 1975-1990.

في حين يستمر المجتمع الدولي داعماً للبنان ويتحدث بصوت عالٍ عن ضمان استقراره وأمنه وسيادته، فإنه طالما يواصل دعمه والعمل مع المسؤولين أنفسهم، الذين يتقاسمون المسؤولية عن الفساد من دون أي ضغوط للإصلاح، فلن يتغيّر الكثير.

الليرة والربط

كما أن الإستقرار السياسي والمالي للبنان على مفترق طرق، كذلك استقرار عملته. وفقاً لمسؤول كبير في وزارة المالية، إنها مسألة وقت فقط قبل أن تنخفض قيمة الليرة، التي تم ربطها بالدولار لسنوات. وعلى الرغم من أن سلامة إعترف بأن ربط العملة مُكلفٌ، إلا أنه يدّعي أن “تعويم العملة سيُقوّض الثقة وبالتالي التدفقات. كما أنه سيخلق تضخماً كبيراً”.

ولكن مدى السرعة التي يضرب فيها لبنان لما يشبه الجدار المحتوم هو مفتاح. الموت البطيء هو الأخطر، ويبدو أن الحل الوحيد هو تدخل صندوق النقد الدولي، على الرغم من أن الرئيس الحريري رفض الفكرة. كما ألمح الرئيس ميشال عون إلى احتمال الذهاب إلى صندوق النقد الدولي خلال خطاب ألقاه في 1 آب (أغسطس)، على الرغم من أن مكتبه وزع بياناً لاحقاً نفى فيه ذلك.

من المؤكد أن هذا سيعني زيادة الضرائب والتضخم ووضع يد صندوق النقد الدولي على مؤسسات الدولة، لكن الطبقة السياسية الحالية أثبتت مراراً وتكراراً أنها غير قادرة على تنفيذ الإصلاحات اللازمة. والأهم من ذلك، يجب وضع رؤية مالية واقتصادية واضحة وتنفيذها. إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن أي مساعدات، مثل القروض المُيسّرة والمنح التي تبلغ 11 مليار دولار التي تم التعهّد بها للبنان في مؤتمر “سيدر” في العام 2018، ستنتهي بسرعة في جيوب القادة الفاسدين.

قطاع الكهرباء

من بين التكاليف الرئيسة التي تستنزف الخزينة اللبنانية هي الإعانات المُقدَّمة لشركة الطاقة التي تديرها الدولة، شركة كهرباء لبنان، والتي يبلغ مجموعها حوالي ملياري دولار في السنة. قال صندوق النقد الدولي والمسؤولون اللبنانيون إن هذا الرقم يُمثل حوالي 40٪ من عجز الموازنة السنوية.

وقد أقرت الحكومة والبرلمان اللبنانيان خطة جديدة من المفترض أن توفر الطاقة على مدار الساعة بحلول العام 2023. وبحلول العام 2020، ستوفر الخطة ما يقرب من ملياري دولار، وفقاً لنديم المنلا، المستشار الإقتصادي لرئيس مجلس الوزراء الحريري.

رواتب القطاع العام

قال الحريري وشركاؤه في الحكومة إن الإصلاحات “المؤلمة” ستكون ضرورية لإعادة الإقتصاد إلى المسار الصحيح، وتشير آخر التقارير حول مشروع الموازنة إلى أن المواطنين العاديين من المرجح أن يتلقوا ضربة قوية.

في حين أن موازنة الدولة لعام 2017 أمرت بتجميد التوظيف في المؤسسات العامة، فقد تم الكشف أخيراً عن تعيين حوالي 5000 شخص في الفترة التي تسبق انتخابات 2018. ويذهب نحو 35 في المئة من الموازنة إلى رواتب القطاع العام، وقال سلامة إن القطاع العام قد نما إلى حد أصبح عائقاً وعالة على الإقتصاد.

قليل جداً، بعد فوات الأوان؟

لم يتخلف لبنان عن سداد ديونه أبداً، وظل وضعه المالي مستقراً نسبياً منذ أوائل تسعينات القرن الفائت، لكن قلّة الإشراف والرقابة على نفقات الدولة، وزيادة الديون العامة، دفعت البلاد ببطء نحو الهاوية.

إن الوضع الإقتصادي العالمي، وخصوصاً في الخليج، يعني أن فُرَص الإنقاذ الأعمى أو تدخل الرياض للإنقاذ ضئيلة. في نهاية آب (أغسطس)، كانت التقارير تتداول في لبنان عن استعداد الدول العربية لوضع ودائع كبيرة في البنك المركزي، من شأن هذا بالتأكيد أن يساعد الوضع في المدى القصير، لكن هذا يعني أيضاً ركل “العلبة” أكثر إلى أسفل الطريق من دون حل المشكلات الحقيقية.

لا يُمكن مطالبة البنوك بإنقاذ الحكومة، في حين أن اللبنانيين العاديين ليسوا في وضع يسمح لهم بتكديس الأموال لتغطية إنفاق السياسيين المُهدِرين. يجب إيقاف الصفقات الخلفية والفساد والتهرّب الضريبي، وهذا يعني أن أي قروض أو منح تمضي قدماً يجب إتمامها بأقصى شفافية.

وكما قال سلامة: “لبنان بحاجة إلى تعزيز الثقة في مستقبله. لقد أظهرنا مرونة في مواجهة الشدائد والحملات السلبية، ولكن حان الوقت لوضع رؤية للمستقبل”.

  • جوزيف حبوش، باحث غير مقيم في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، محرر في “ديلي ستار”، ومراسل في الشرق الأوسط لصحيفة “التلغراف”. وجهات النظر المعروضة في هذه المقالة هي خاصة به.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى