هذا الخطابُ الطائفي… هذه الخُطبة السياسية

بقلم هنري زغيب*

يلفتُني لدى معظم الكاريكاتور في الصحافة اللبنانية ميلُ الرسامين إِلى تصوير الـمواطن اللبناني مسحوقًا، مُتعَبًا، لاهثًا، رازحًا حتى الإختناق تحت أَثقال الـملفَّات والوعود والأَوراق والـمعاملات وضغوط السياسيين، فيرسمونه أَحيانًا بصورة رجُل منكوب، وأَحيانًا بصورة خارطة لبنان مُـجَسِّدةً مُواطنَها الـمنكوب، حتى لتشتعل في قلوب القارئ ثورةٌ على سياسيين أَوصلوا البلاد إِلى حالتها الرجراجة الحالية.

معهم حق، رسامو الكاريكاتور. وكيف لا يكون هذا الـمواطن اللبناني منكوبًا مغلوبًا مسلوبًا مضروبًا، وهو بين نَارَين يوميَّــتَين داهـمَـتَين: الـخُطبة والـخِطاب.

في منطق الـخُطبة أَن تولدَ في حَرمٍ دينيّ، يلقيها رجُلُ دينٍ مسؤُولٌ على مؤْمنين يجدون في كلامه صدى لكلمة الله على الأَرض.

في منطق الـخِطاب أَن يولدَ في موقعٍ عامٍّ يلقيه سياسي على مواطنين يتوقَّعون من كلامه ضوءًا يُنير عتمةً تلفُّهم وتلفُّ بهم الوطن.

فهل هذا ما يجري عندنا اليوم؟

هل تخلو خُطبة دينية في حرَم ديني من كلام سياسي يَسرد أَو يَنتقد أَو يُعارض أَو يُؤَيد أَو يَردُّ على كلام سياسي صدَر أَو على موقف ديني من جهة مقابلة؟

هل يخلو خطاب سياسي من غمْز ولـمْز وإِيحاء وتعابير تصبُّ في كلام سياسي مقابل أَو موقف حزبي أَو ظرفي في جهة أُخرى؟

تتلاطم الـخُطَب فوق رؤُوس الـمواطن، وهو بينها وتحتها وحولها ضائعٌ تائهٌ لا يعرف مَن يصدِّق، ومَن يناصر، ومَن يكذِّب، ومَن يَتْبع ومن يَـتَّبع، وكيف يوافق وكيف يَرفض، وكيف يَغضب، وكيف يُنكر وكيف يَستنْكر، وكيف يؤْمن وكيف يكفُر. ولا يفهم كيف اختلطت في الـخُطَب منابرُ الحرَم الديني ومنابرُ الـموقع السياسي، فبات رجُلُ الدين يخطُب في السياسة، وبات رجُلُ السياسة ينحاز إِلى موقفٍ في الدين. ويتيه هذا الـمواطن مضروبًا على رأْسه، مضروبًا في حاضره، مضروبًا في مستقبله، حتى إِذا هـجَّ من البلاد وهاجَر أَو تَـهَجَّر، ثم عاد لبضْع فرصة يزور خلالها أَهله وبيتَه، وجَدَ أَنْ لم يتغيَّر شيْء، وأَنْ ما زالت الـخُطبة الدينيةُ سياسيةً، وما زال الـخطابُ السياسي تحريضيًّا، وما زال الـمنبر الديني في معظمه طائفيًّا خارجَ الوعظ الديني، وما زال الـموقع السياسي تحريضيًّا خارجَ البناء السياسي، وما زالت في الساحة الوجوهُ ذاتُها والأَصواتُ ذاتُها والتعابيرُ ذاتُها والنبراتُ ذاتُها والعباراتُ ذاتُها والصيحاتُ ذاتُها والـمصايـحاتُ ذاتُها. عندئذٍ يقلِّص هذا الـمواطن أَيَّام فرصته، يقبِّل وَجْنَةَ أُمِّه وجبينَ أَبيه وحجرًا في جدار البيت، ويُقْفل عائدًا إِلى وطنه الآخر حيث يعمل بكرامة ويعيش بكرامة ويبني مستقبل أَولاده بكرامة.

وفي الطائرة يفتح الـجريدة فيرى على صفحتها الأَخيرة رسمًا كاريكاتوريًّا لِـمُواطنٍ مسحوق مغلوب منكوب مضروب، فيطوي الـجريدة، يُعيدُها إِلى الـمُضيفة، وينظُر من نافذة الطائرة فيرى مَدًى واسعًا أَزْرقَ صافيًا نقيًّا، لا أَثَرَ فيه لـخُطبة دينية طائفية ولا لـخِطاب سياسي تحريضي، فيُغْلِقُ النافذةَ حَـدَّه، وينام في مقعده منتظرًا سَـماع الـمُضيفة تدعو إِلى ربْط الأَحزمة استعدادًا لـبدْء هبوط الطائرة في ذلك الـمطار البعيد.

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: email@henrizoghaib.com أو متابعته على:henrizoghaib.com أو  www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى