أزمة غذاء عالمية تُهدّد حالياً أكثر من مليار نسمة وفي المستقبل القريب البشرية برمّتها

كان الإعتقاد السائد حتى وقت قريب بأن َتغيُّر المناخ وحده يُخرّب الزراعة في العالم، ولكن تبيّن أخيراً بأن الزراعة هي الأخرى تُخرّب المناخ ومعه النظام الغذائي العالمي.

جبال حملايا الجليدية: ذوبان جليدها يُهدد حياة 800 مليون إنسان

 

بقلم جيسون هيكل*

أُطلُب من الناس تسمية أكبر الأخطار الناجمة عن تغيّر المناخ، وسيبدأ معظمهم في سرد ​​الأحداث المناخية القاسية. الأعاصير المُدمّرة والعواصف الشديدة والموجات الحارة الفتّاكة والفيضانات المفاجئة والحرائق الهائلة. هذا ليس مفاجئاً، بالنظر إلى كيفية تغطية نظامنا الإعلامي المصوَّر المُوَجَّه لأزمة المناخ. إن الأحداث المناخية القاسية تُعطينا شيئاً ملموساً للإشارة إليه. يُمكننا أن نراها تحدث في الوقت الفعلي، ويُمكن لأي شخص يُولي أي اهتمام أن يعلم أنها تزداد سوءاً.

ولكن في حين أن الطقس القاسي يُشكّل تهديداً حقيقياً للمجتمعات البشرية (أُنظر إلى ما فعله إعصار “ماريا” لبورتوريكو)، فإن بعض الجوانب الأكثر إثارة للقلق لتغير المناخ أقل وضوحاً وحتى غير مرئية. ومن الأمثلة على ذلك تقرير جديد من 1400 صفحة أصدره الفريق الحكومي الدولي المعني بتغيّر المناخ (IPCC)، والذي يستكشف تأثير إنهيار المناخ على أهم سمات الحضارة الإنسانية، أي نظامنا الغذائي.

تأمّل في جبال حملايا الجليدية العملاقة. عندما نفكّر في ذوبان الأنهار الجليدية، نحزن على فقدان الأعجوبة الطبيعية ونشعر بالقلق بشأن ارتفاع مستوى سطح البحر. لا نفكر كثيراً في علاقة الأنهار الجليدية بالطعام والتأثير فيه. ولكن هذا هو المكان الذي تأتي منه الأزمة الحقيقية.

يعتمد نصف سكان آسيا على المياه التي تتدفق من الأنهار الجليدية في جبال حملايا – ليس فقط للشرب والإحتياجات المنزلية الأخرى ولكن الأهم من ذلك للزراعة. لآلاف السنين، كان جريان المياه من تلك الأنهار الجليدية يتجدد ويستمر بالتدفق كل عام بسبب تراكم الجليد في الجبال. لكن في الوقت الحالي، يذوب الجليد بمعدل أسرع بكثير من معدل تراكمه واستبداله. في مسارنا الحالي، إذا فشلت حكوماتنا في تحقيق تخفيضات جذرية في الإنبعاثات، فإن غالبية تلك الأنهار الجليدية ستزول خلال حياة بشرية واحدة. وسيؤدي هذا إلى القضاء على النظام الغذائي في المنطقة، مما سيترك أكثر من 800 مليون شخص في أزمة.

وهذا فقط في آسيا. في العراق وسوريا ومعظم مناطق الشرق الأوسط، سيجعل الجفاف والتصحّر مناطق بأكملها غير مضيافة للزراعة. جنوب أوروبا سوف يذبل مع امتداد الصحراء. المناطق الرئيسة لزراعة الأغذية في الصين والولايات المتحدة ستُضرَب أيضاً. وفقاً لتحذيرات وكالة الفضاء الأميركية “ناسا”، فإن الجفاف الشديد يُمكن أن يحوّل السهول والجنوب الغربي في أميركا إلى “وعاء” غبار عملاق. اليوم جميع هذه المناطق هي مصادر موثوقة للغذاء. من دون الإقدام على عمل شيء وتحرك مناخي عاجل، سيتغيّر ذلك. وكما يقول ديفيد والاس-ويلز في “الأرض غير الصالحة للسكن” (The Uninhabitable Earth)، يُقدّر العلماء أنه مقابل كل درجة تسخين للكوكب، ستنخفض غلّة محاصيل الحبوب الأساسية بنسبة 10٪ في المتوسط. وإذا واصلنا العمل كالمعتاد، فمن المرجح أن تنهار المواد الأساسية بنسبة 40 في المئة مع نهاية القرن.

في ظل الظروف العادية، يُمكن تغطية نقص الأغذية في المنطقة بواسطة فوائض من أماكن أخرى على الكوكب. لكن النماذج تُشير إلى وجود خطر حقيقي بأن يؤدي انهيار المناخ إلى نقص في الأغذية في قارات متعددة في وقت واحد. وفقاً لتقرير الفريق الحكومي الدولي المعني بتغيّر المناخ، من المحتمل أن يتسبّب الإحترار الذي يزيد عن درجتين مئويتين في “اضطرابات مستمرة في الإمدادات الغذائية على مستوى العالم”.

من المتوقع أن يؤدّي تغيّر المناخ إلى رفع معدلات الجوع وسوء التغذية وتقزّم وإعاقة نمو الأطفال. لكننا سنكون غير جدّيين إذا اعتقدنا أن الأمر يتعلق فقط بعدم وجود ما يكفي من الطعام لتناوله. إن ذلك سيكون له تداعيات خطيرة على الإستقرار السياسي العالمي. ستشهد المناطق المتأثرة بنقص الغذاء نزوحاً جماعياً حيث سيهاجر الناس إلى المناطق الصالحة للزراعة في العالم أو يبحثون عن إمدادات غذائية مستقرة. في الواقع، هذا يحدث بالفعل حالياً. كثير من الأشخاص الذين يفرون من أماكن مثل غواتيمالا والصومال يفعلون ذلك الآن لأن مزارعهم لم تعد قابلة للحياة.

إن الأنظمة السياسية تتوتّر فعلياً حالياً تحت وطأة أزمة اللاجئين: بدأت الحركات الفاشية تنتعش، والتحالفات الدولية أخذت تتلاشى. عامل في خسارة 40 في المئة من الغلّة الزراعية وفشل سلة الخبز المتعددة في العالم، وليس هناك ما يمكن التنبؤ به من حرائق.

هناك مفارقة مثيرة للقلق هنا. يتسبّب تغيّر المناخ في تقويض أنظمة الغذاء العالمية، ولكن في الوقت نفسه تُعتبَر أنظمة الغذاء عندنا سبباً رئيساً لانهيار المناخ. وفقاً للفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ، تُساهم الزراعة بما يقرب من ربع جميع انبعاثات غازات الدفيئة البشرية المنشأ.

بطبيعة الحال، لا تكمن المشكلة هنا في أي نوع من الزراعة فقط، بل هي بالتحديد في النموذج الصناعي الذي سيطر على الزراعة خلال نصف القرن الماضي أو نحو ذلك. هذا النهج لا يعتمد فقط على إزالة الغابات بقوة لإفساح المجال أمام زراعة أحادية واسعة النطاق، والتي تولّد وحدها 10 في المئة من غازات الدفيئة العالمية؛ بل يعتمد أيضاً على الحراثة المكثفة والإستخدام الثقيل للأسمدة الكيماوية، الأمر الذي يؤدي إلى تدهور التربة بسرعة على كوكب الأرض، وفي الوقت عينه إلى إطلاق أعمدة ضخمة من ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي.

قد يبدو هذا الوضع، على السطح، مشكلة لا يُمكن التغلب عليها. بعد كل شيء، نحن بحاجة إلى إطعام سكان العالم، ويبدو أن الزراعة المُكثَّفة هي الطريقة الأكثر فعالية للقيام بذلك. إذا كان هناك أي شيء، بالنظر إلى أن حوالي مليار شخص لا يحصلون على ما يكفي من الطعام للأكل كما هو، فمن المحتمل أن نفعل الكثير منه. وإذا كان الأمر كذلك، فيبدو أنه من المستحيل تقريباً تحقيق أهدافنا المناخية وفي الوقت نفسه إنتاج ما يكفي من الغذاء لإطعام العالم.

لحسن الحظ، هناك حلٌّ سهل. يعتمد الأمر على الإدراك بأن كمية كبيرة من الزراعة الصناعية ليست في الواقع ضرورية لاحتياجات الإنسان.

ضع في اعتبارك ما يلي: وفقاً للفريق الحكومي الدولي المعني بتغيّر المناخ، يتم هدر حوالي 30 في المئة من الإنتاج العالمي للأغذية كل عام، معظمها في البلدان ذات الدخل المرتفع. من خلال القضاء على هدر الغذاء وتوزيع فوائض الطعام بشكل أكثر إنصافاً، يُمكننا إنهاء الجوع مع تقليل الإنتاج الزراعي العالمي بالفعل. ويُقدّر العلماء أن هذا يمكن أن يُحرّر ملايين عدة من الأمتار المربعة من الأرض ويُخفّض الإنبعاثات العالمية بنسبة 8 إلى 10 في المئة، مما يُقلّل الضغط على المناخ. هذا ليس صعب التحقيق. في كوريا الجنوبية، يتعيّن على الأسر دفع رسوم مقابل كل كيلوغرام من الطعام الذي يرمونه. بدورهما حظرت كل من فرنسا وإيطاليا محلات السوبرماركت من رمي نفايات الطعام. يُمكن فعل الشيء نفسه بالنسبة إلى المزارع، حيث ينبغي أن يذهب أبعد من المنبع إلى نقطة الإنتاج.

تُعتبَر معالجة النفايات الغذائية خطوة أولى حاسمة نحو جعل النظم الزراعية أكثر عقلانية للمناخ. ولكن هناك تدخلاً آخر، وربما أكثر بساطة، يجب أن يكون على الطاولة.

يتم استخدام ما يقرب من 60 في المئة من الأراضي الزراعية العالمية لمنتج غذائي واحد: لحوم البقر. ومع ذلك، وبعيداً من كونها أساسية للوجبات الغذائية البشرية، فإن لحم البقر لا يمثل سوى 2 في المئة من السعرات الحرارية التي يستهلكها البشر. سعرة حرارية لسعرة حرارية، وعنصرٌ مغذٍّ لعنصرٍ مُغذٍّ، إنه واحد من أكثر الأطعمة غير الفعالة والمدمرة بيئياً على هذا الكوكب، والضغط لإيجاد أرض جديدة للمحاصيل العلفية ومحاصيل العلف هو أكبر دافع لإزالة الغابات. من حيث التأثير الكلي للمناخ، إن كل كيلوغرام من لحم البقر الصافي يساوي انبعاثات مماثلة لرحلة ذهاب وإياب عبر المحيط الأطلسي.

وفقاً للبحوث المنشورة في مجلة “التغيّر المناخي” “Climatic Change”، فإن خفض استهلاك لحوم الأبقار لصالح لحوم حيوانات غير مجترة أو بروتينات نباتية مثل الحبوب والبقول يمكن أن يُحرر ما يقرب من 11 مليون ميل مربع من الأرض – أي حجم الولايات المتحدة وكندا والصين مجتمعة. هذا التحوّل البسيط في النظام الغذائي سيُتيح لنا إعادة مساحات شاسعة من الكوكب إلى موائل الغابات والحياة البرية، وخلق أحواض كربونية جديدة وخفض انبعاثات صافية بنسبة تصل إلى 8 جيغاطن من ثاني أوكسيد الكربون سنوياً، وفقاً للفريق الحكومي الدولي المعني بتغيّر المناخ. وهذا يشكّل حوالي 20 في المئة من الإنبعاثات السنوية الحالية.

مراراً وتكراراً، وجد العلماء أن خفض استهلاك لحوم البقر – وبخاصة في البلدان ذات الدخل المرتفع – هو من بين أكثر السياسات التحويلية التي يُمكن أن ننفذها وهي ضرورية لتجنّب تغير المناخ الخطير. من حيث أهدافنا المناخية، يُمكن أن يعني ذلك الفرق بين النجاح والفشل.

كيف يمكن تحقيق ذلك؟ تتمثل الخطوة الأولى في إنهاء الدعم الكبير الذي تقدمه معظم البلدان المرتفعة الدخل إلى مزارعي لحوم البقر. يختبر الباحثون أيضاً مقترحات لفرض ضريبة على اللحوم الحمراء، والتي وجدوا أنها لن تقلل من الإنبعاثات فحسب، بل تقدم أيضاً مجموعة واسعة من فوائد الصحة العامة الأمر الذي سيخفض التكاليف الطبية. ويتمثّل النهج الأكثر طموحاً في التخلص التدريجي من منتجات لحوم البقر بشكل تام، تماماً كما نسعى إلى التخلص التدريجي من الفحم والوقود الأحفوري. هناك سابقة لمثل هذه الخطوة: الحوت وزعنفة القرش خارج القائمة لأسباب بيئية. غالبية الدول لديها قوانين صارمة بشأن المنتجات الخطرة مثل المخدرات والبنادق – من المنطقي أنه يجب أن نوسع دائرة هذا السلوك إلى المنتجات المدمرة بيئياً أيضاً.

بالإضافة إلى التغييرات الغذائية وتقليل هدر الطعام، وجد الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ أن التحوّل السريع بعيداً من أساليب الزراعة الصناعية التقليدية نحو أساليب تجددية – الحراجة الزراعية، الزراعة المتعددة، الزراعة من دون حراثة، والنُهُج العضوية – سوف يقطع شوطاً طويلاً نحو استعادة التربة وعزل الكربون من الجو، وتحسين الغلة الطويلة الأجل، وجعل المحاصيل أكثر مرونة وتكيّفاً مع تغير المناخ.

لقد تم طرح العديد من هذه الأفكار في اقتراح “الصفقة الجديدة الخضراء” (Green New Deal ). وقد جعل المرشح الرئاسي الأميركي عن الحزب الديموقراطي تيم رايان بعضها محورياً في برنامجه الإنتخابي. بالطبع، نحن بحاجة إلى رمي كل ما لدينا لوضع حدٍّ لاستخدام الوقود الأحفوري في أسرع وقت ممكن. ولكن إذا أردنا الحصول على فرصة جيدة لتفادي التغيّر المناخي الكارثي، فإن إعادة التفكير في صناعة الأغذية يجب أن تكون جزءاً من الخطة.

  • جيسون هيكل عالم أنثروبولوجيا، ومؤلف، وزميل في الجمعية الملكية للفنون. يُمكن متابعته على تويتر” : @jasonhickel
  • كُتب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى