خريف التحوّل في تونس

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

هل حُسِم الأمر وتوضّحت الصورة في تونس، ولمَن سيؤول الحكم بعد انقضاء تشرين الأول (اكتوبر) المقبل؟

غالبية المراقبين للساحة السياسية التونسية تسود لديها قناعةٌ مٌطلقة بأن الصورة،  وإن كانت ضبابية، فإنها تنفرج عن بعض الضوء في اتجاه معين. وإذا كان  كل شيء مُحتمَلاً، فإن هناك مَن بات لديه اعتقاد جازم بأن السباق الرئاسي بات يدور بين 5 أو 6 أسماء، من أصل 26 تحفل بهم القائمة النهائية أو تكاد، للترشح الرئاسي، وأن واحداً منهم بات على قاب قوسين أو أدنى من الهدف، وأن السباق في الإنتخابات التشريعية التي ستجري في 6 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل سيكون  إلى حد كبير صورة لنتائج انتخابات الرئاسة، باعتبار أن الناخبين سيعطون للرئيس المُحتمَل انتخابه، على الاقل البارزة ملامحه  منذ الدورة الأولي في 15 أيلول (سبتمبر) المقبل، وسائل وأدوات الحكم التي يحتاجها لتسيير شؤون الدولة، كما هو الشأن عادة في البلدان التي تجري فيها الإنتخابات الرئاسية قبل التشريعية، وهو ما سعت حركة “النهضة” الإسلامية إلى تجنّبه بكل قوة سنة 2014، وسقطت فيه في 2019، وهو أمر لا يخدم مصالحها،على اعتبار أن وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، قد فرضت أجندة جديدة تسبق فيها الإنتخابات الرئاسية الإنتخابات التشريعية،  حيث أن الشغور الدائم لمنصب الرئيس بعثر أوراقها، وفرض ديناميكية جديدة تقوم على حالة الإنجرار الناتجة عن إعطاء الفائز في الرئاسة أسبقية، وفرصة إن لم تكن للسيطرة على نتائج التشريعية، فعلى الأقل البروز فيها  بأغلبية مهمة جداً قد تصل إلى حد البسيطة لا النسبية، مع ما يمكن أن تتوفر معها أغلبية برلمانية، لم نعهدها منذ انتخابات 2011،  تُعطي الرئيس المُنتَخب فرصة للحكم  وبيد شبه مطلقة في حدود الصلاحيات التي يعطيها له الدستور أو ربما يتجاوزها، ما لم يتوفر لسابقيه  المرزوقي وقائد السبسي.

وإذ كان السباق الحقيقي يدور اليوم بين 5 أو 6 من 26 مترشحاً، فمَن سيكون هذه المرة “العصفور النادر”، الذي سيكون ضيفاً على قصر قرطاج لمدة  5 أو حتى ربما 10 سنين؟

في غياب عمليات سبر آراء مُعلَنة، وفقاً لموانع قانونية، فإن الأحزاب الكبرى والمترشحين بالذات يبدون على علم بنتائج عمليات استطلاع الرأي، إن لم يكونوا قد طلبوها لحسابهم الخاص، من هنا يحق السؤال : لماذا يواصل حوالي 20 مترشحاً للرئاسة الحضور، علماً أن استمرار ترشّحهم سيضرّ بمَن لديهم حظوظ حقيقية للنجاح وقد يُغير النتائج، ويمكن أن يحرم هؤلاء من الوصول إلى المرتبة الأولى أو الثانية المؤهله لسباق الدورة الحاسمة التى تصطفي الرئيس المقبل من بين إثنين من جملة المترشحين. وبالطبع فإن عمليات سبر الآراء لا يمكن أن تعوّض التصويت العام، ولكن تلك الإستطلاعات تُعطي صورة للواقع الإنتخابي في لحظة معينة، خصوصاً إذا تكررت من مؤسسات إستطلاع الرأي المختلفة التونسية والأجنبية.

وعلى سبيل المثال فإن اليسار المُنقسم على نفسه بثلاثة مرشحين وفقاً لاستطلاعات الرأي، لا يأمل حتى في الحصول ـ بمرشحيه الثلاثة ـ على نتيجة مماثلة لتلك التي بلغها في انتخابات 2014 حمة الهمامي، كما إن التوجه الاسلامي مُمثَّلاً بأربعة أو خمسة مرشحين ويقول البعض 6،  بمن فيهم المرشح الرسمي ل”النهضة” عبد الفتاح مورو، والذين سيشربون من منبع واحد هو المخزون الإسلامي الذي يعتقد المراقبون أنه يراوح بين 25 و30 في المئة من مجموع الجسم الانتخابي، تتقاسمه تجاذبات ستجعل وصول عبد الفتاح مورو للدور الثاني أمراً في غاية الصعوبة إن لم تحدث انسحابات في الأثناء، ففي تحقيق نشرته جريدة “الشروق” الأسبوع الماضي من دون ذكر المصدر، فإن خزان الاسلاميين سيضمن حصول عبد الفتاح مورو على نصف عدد الأصوات  الإسلامية، في مقابل أقل من الثلث لحمادي الجبالي، وأقل من ذلك لمنصف المرزوقي، والفتات لسيف الدين مخلوف، ما يعني أن نصيب مورو سيراوح ما بين 12.5 و15 في المئة.  لذا يبقى السؤال مطروحاً ما إذا كان من حظه تجاوز عقبة الدور الأول، ويكون أحد إثنين في مناطحة الدور الثاني، ويبدو الشيخ مورو في موقف لا يحسد عليه.

والأمر كذلك في ما يسمى بالعائلة الوسطية الحداثية، وإن كان المراقبون يبدون متفقين أن عبد الكريم الزبيدي يتقدم الصفوف، وأنه قد يكون الوحيد المرشح لاجتياز عقبة الدور الأول في انتظار صورة الثاني، ما يجعل الطريق لقصر قرطاج قد يكون مفتوحاً أمامه، ويقول المدون التهامي العبدولي، كاتب الدولة الأسبق، إن المعطيات المتوفرة لديه من دون ذكر المصدر، تُفيد بأن الزبيدي يأتي في المرتبة الأولى وعبد الفتاح مورو في المرتبة الثانية بفارق 6 نقاط، ما يدفع للاستنتاج بأنهما المرشحان للدور الثاني.

وهذا يطرح سؤالاً حارقاً: أين سيكون موقع كلاً من نبيل القروي الذي كانت استطلاعات الرأي ترشحه للموقع الأول، وقيس سعيد للموقع الثاني وعبير موسي للموقع الثالث؟ ثم هل يكون رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي يعتقد أن “النهضة” خذلته بتقديم مرشح عنها، ولم تعتبره عصفورها النادر، وهو ما كان يتطلب منه أن  يضع نفسه تحت جناحها  فينتحر سياسياً، كما كان شأن منصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر في انتخابات 2014؟ ويعتقد الكثيرون أن بقية الفريق الذي يعتبر نفسه وسطياً حداثياً، فإنه لم يبق له إلا أن يواصل المغامرة، إما بنتائج خجولة، أو بالتفاوض على مواقع في الحكم المقبل، وهو أمر ليس مضموناً باعتبار طبيعة من سيشغل الموقع الرئاسي.

ألم يقل المراقبون السياسيون منذ البداية، إن وفاة الباجي قائد السبسي جاءت في وقت حرج، وقد بعثرت كل الأوراق، وإلا فمَن كان يمكن أن يراهن على احتمالات تعقيدات بهذا القدر، ربما تكون “النهضة”، ويوسف الشاهد وفريقه أكبر الخاسرين فيها.

  • عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي تونسي مخضرم، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية ومراسلاً لصحف ومجلات عربية عدة. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى