الصراع الكردي-العربي على النفوذ يُهدِّد الإستقرار في شمال شرق سوريا

تحاول القيادة الكردية في سوريا التمسّك بمعقلها في شمال شرق البلاد، لكن التوازن بين المصالح الكردية والمطالب العربية أصبح عقبة رئيسة.

التعليم في “روج آفا”: العرب يتبعون نهج النظام السوري من دون تاريخ البعث والأكراد لهم منهجهم الخاص

بقلم إليزابيث تسوركوف وعصام الحسن*

أتاح القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية” ككيانٍ جغرافي في آذار (مارس) 2019، ل”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي تُشكّل مظلة للمقاتلين الأكراد والعرب، السيطرة على نحو ثلث الأراضي السورية حيث يُقيم ملايين السوريين ومعظمهم من غير الأكراد. ويُشكّل إنشاء الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، أي الهيئة المدنية التي تحكم المناطق الواقعة في شمال شرق البلاد وشرقها، التطوُّر الأحدث عهداً في المشروع السياسي ل”حزب الإتحاد الديمقراطي الكردي”. وقد تبنّت الإدارة الذاتية خطاب الحكم الذاتي القائم على “أخوة الشعوب”، وعملت على تعزيز التعايش والإعتراف المُتبادَل بين مختلف أبناء المنطقة. وفي الوقت نفسه، أبدت رفضها التخلّي عن أي سلطة فعلية في مجال صناعة القرار وتسليمها إلى الجماعات الكردية أو إلى القيادة السياسية والعسكرية الإسمية للمشاركين العرب في الإدارة الذاتية و”قسد”. يقول السكان المحليون في المدن ذات الأكثرية العربية الخاضعة لسيطرة “قسد” إن تهميش العرب من آلية الحكم في مناطقهم يولّد مشاعر استياء لدى العرب المُثَقّفين والمتمرّسين الذين يعتبرون أنفسهم غير معنيين بإدارة مناطقهم.
أُنشئ “حزب الإتحاد الديمقراطي الكردي” في العام 2003 على يد عناصر سوريين في “حزب العمال الكردستاني” المُسلَّح المُناهض للدولة التركية، الذي غالباً ما يشنّ هجمات من جبال قنديل العراقية حيث مقر قيادة الحزب. تستند إيديولوجيا “حزب العمال الكردستاني” و”حزب الإتحاد الديمقراطي” إلى كتابات زعيم حزب العمال الكردستاني السجين، عبدالله أوجلان، التي شهدت تحوّلاً على مر السنين. فكتاباته الأخيرة ترفض المركزية ومفهوم الدولة-الأمة، في حين أنه كان أبدى سابقاً دعمه لإقامة دولة مركزية مستقلة في كردستان، ودعا إلى تفويض السلطة إلى المجالس المحلية المعروفة بالكومونات والتي تُعتبَر ركائز منظومة الإدارة الذاتية.
ولكن الواقع على الأرض في شمال شرق سوريا يكشف أن الكومونات وغيرها من وحدات الحكومة المُنتَخَبة هي بصورة أساسية عبارة عن وسيلة لتوزيع الخدمات وجمع المعلومات والسيطرة على السكان والإيحاء ظاهرياً بالمشاركة الشعبية. فصناعة القرار لا تزال مركَّزة في أيدي الكوادر، أي كبار العناصر في “حزب العمال الكردستاني”، من رجال ونساء، الذين تدرّبوا في جبال قنديل وأدّوا دوراً ناشطاً في التمرد ضد تركيا، أو في التعبئة باسم “حزب العمال الكردستاني” في أوروبا. هؤلاء الأشخاص هم سوريون بمعظمهم، لكنهم غادروا منازلهم قبل عقود للانضمام إلى “حزب العمال الكردستاني”. وفي أعقاب إنشاء إقليم “روج آفا” ذي الحكم الذاتي في شمال شرق سوريا في العام 2012، مع انسحاب قوات نظام الأسد من المنطقة من أجل التصدّي لتقدّم الثوار في مناطق أخرى، “جاء (هؤلاء الأشخاص) من الجبال (جبال قنديل)”.
على الرغم من التزام “حزب العمال الكردستاني” العميق بنظرة أوجلان النسوية اليسارية، لم يطبّق قادة الحزب هذه النظرة في المناطق ذات الأكثرية العربية. فعلى سبيل المثال، يقتصر تطبيق المنهج الدراسي الذي أعدّته الإدارة الذاتية على المناطق ذات الأكثرية الكردية (المعروفة أيضاً ب”روج آفا”)، في حين أن الطلاب في الرقة ودير الزور ومنبج لا يزالون يتبعون المنهج الذي وضعه النظام السوري مع حذف صفوف العقيدة البعثية. هذا فضلاً عن أن القوانين الأُسَرية التي أقرّتها الإدارة الذاتية،على غرار القانون الذي يُحظّر تعدُّد الزوجات، غير مطبَّقة في المناطق ذات الأكثرية العربية. وقد شرح المسؤولون الأكراد أن الجماعات التي تُقيم خارج إقليم “روج آفا” ذي الأكثرية الكردية تحتاج إلى فترة تكيُّف قبل أن يكون بالإمكان تطبيق هذه القوانين أو إدخال تغييرات جذرية إلى النظام التربوي.
على الرغم من البراغماتية التي يتحلّى بها الكوادر واستعدادهم لتغيير سياساتهم ومقارباتهم وتكييفهم بحسب الإحتياجات، يُبدي هؤلاء رفضهم التخلّي عن السلطة. فهم مَن يتولّون عادة إتخاذ القرارات الكبيرة والصغيرة في المناطق ذات الأكثرية الكردية والعربية على السواء. وفي حين عُيِّن العرب في مناصب عسكرية ومدينية قيادية في جميع المناطق ذات الأكثرية العربية، يتّخذ الكوادر الذين يوصَفون بأنهم “مستشارو” القادة العرب المحليين، معظم القرارات، ويتجاوزون أحياناً العرب المُكلَّفين رسمياً بالمسؤوليات والمهام. ويصف أحد النشطاء في دير الزور الكوادر الأكراد في الهيئات التي يتولى العرب رسمياً قيادتها، بأنهم “العلويون الجدد”، في إشارة إلى الطائفة التي ينتمي إليها آل الأسد الذين يشغلون معظم المناصب النافذة في سوريا. وقد قال زعيم إحدى القبائل الكبيرة في دير الزور: “يأتون من الجبال (جبال قنديل) ويحاولون أن يحكموا مناطقنا التي لا يفهمون طبيعتها”.
وفي أحد المجالس العسكرية الكبرى في مدينة ذات أكثرية عربية، سخر المقاتلون الأكراد الأدنى رتبة من رئيس المجلس المشترك، وهو رجل عربي، واصفين إياه بـ”البدوي”، وفوجئوا عندما قال أحد كاتبَي هذه السطور إن الرجل واسع الإطلاع وإنه أدلى بمعلومات مفيدة عن المنطقة حيث أبصر النور وترعرع”. وقد تحدّثت الرئيسة المشتركة لأحد المجالس المدنية في منطقة ذات أكثرية عربية، عن نظرة شائعة لدى زملائها في المجلس: “نحن نثق بشريكنا الكردي، لكنه لا يثق بنا”، مضيفةً: “الكوادر حاضرون على الدوام” لمتابعة العمل الذي يقوم به القادة العرب في المجلس. ولفتت في هذا الصدد إلى أن “كل قائد عربي يتبع لقائد كردي أعلى منه”. وتكشف المحادثات مع قياديين أكراد في “قوات سوريا الديمقراطية” أنهم ينظرون إلى العرب المقيمين في شرق سوريا بأنهم شديدو التمسك بانتماءاتهم القبلية، وينقادون بسهولة إلى النزاع الداخلي، وبأنهم بعيدون عن المبادئ، وغير جديرين بالثقة. بيد أن غياب الثقة بالسكان يتجلّى أيضاً في المناطق الكردية. قال عضو سابق في “حزب الإتحاد الديمقراطي” في معرض حديثه عن الخلل الوظيفي في منظومة الكوميونات في القامشلي، مسقط رأسه: “لا يثق الحزب (حزب الاتحاد الديمقراطي) بالمجتمع لأنه يعتبر أن السكان جهلة وغير ضالعين في الإيديولوجيا”.
في بعض المناطق ذات الأكثرية العربية، إختارت الإدارة الذاتية العمل من طريق شيوخ القبائل، بدلاً من المهنيين المثقّفين. وقد رفض النشطاء والمهنيون العرب، على نطاق واسع، تسلُّم مناصب في مؤسسات الإدارة الذاتية التي يرون فيها أوراق تين لتغطية الأجهزة المركزية الحقيقية. ويعتبر هؤلاء أن قرار العمل مع المشايخ هو سياسة متعمّدة الهدف منها تمكين هؤلاء الشيوخ الأكثر انقياداً وغير العقائديين عموماً، على حساب الشباب المُتعلّمين الأكثر “ثورية” الذين هم أقل تقبّلاً لسياسات الصفقات.
وقد أدّى ذلك، وفقاً لسياسيين ونشطاء وشخصيات قبلية في دير الزور، إلى تجريد العرب في المحافظة من إمكاناتهم، الأمر الذي يساهم بدوره في التجدّد المقلق للهجمات التي تشنّها خلايا نائمة تابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” في المنطقة. وقد حذّر الرئيس المشترك لأحد المجالس المدنية في شرق سوريا من أن عودة “الدولة الإسلامية” في العراق مردّها إلى حرمان السنّة من حقوقهم، ومن أن السيناريو نفسه قد يتكرر في شرق سوريا بسبب حرمان العرب السنّة من حقوقهم. غالب الظن أن السكان المحليين الذين ينظرون إلى وجود “قسد” في المنطقة بأنه احتلال أجنبي، بدلاً من وجود هيئة محلية تمثّل أبناء المنطقة، لن يجازفوا بالتعرض للثأر على أيدي “الدولة الإسلامية” من أجل تزويد “قسد” بالمعلومات الاستخبارية التي من شأنها مساعدتها على التصدّي لخلايا “الدولة الإسلامية” في الصحراء الشرقية الشاسعة. وقد علّق شيخ قبيلة كبيرة في دير الزور: “إذا علمت أن نسيبي يعمل مع “الدولة الإسلامية”، هل أبلّغ عنه إلى إدارة لا تُمثّلني، مخالفاً بذلك التقاليد القبلية، أم ألتزم الصمت وحتى إنني قد أساعده؟”.
فيما يسعى التحالف الدولي الذي يحارب تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى حماية الشمال الشرقي من الهجمات التركية، إنها فرصة سانحة لاستخدام النفوذ الذي يتمتع به التحالف وتشجيع “حزب الاتحاد الديمقراطي” لتمكين العرب والأكراد على السواء، والسماح لهم بتطبيق الإدارة الذاتية الفعلية. لقد أدّى الكوادر ذوو الخبرات الواسعة دوراً أساسياً في إرساء منظومة الحكم على عجل ودرء الهجمات من الثوار السوريين ولاحقاً من “الدولة الإسلامية”، غير أن سيطرتهم المستمرة على عملية صناعة القرار تمارس تأثيراً مناوئاً على الاستقرار في المنطقة. ويتيح انتهاء العمليات القتالية الأساسية ضد “الدولة الإسلامية” فرصة للحد من المركزية من دون تكبُّد مخاطر أمنية كبرى. من شأن تمكين المجتمعات المحلية أن يُعزّز الرضى لدى أبناء هذه المجتمعات، ويشجّع العرب على المشاركة في إعادة بناء مجتمعاتهم، وقد يساهم في الحد من عودة “الدولة الإسلامية” في سوريا.
ولكن يبدو أن القيادة الكردية تشكّك في قدرة العرب والأكراد في شمال شرق سوريا على ممارسة الحكم الذاتي. فمما لا شك فيه أن الحكم البعثي القمعي الذي استمر عقوداً وفرض حظراً على المجتمع المدني والحراك السياسي المستقل، بالإضافة إلى تردّي النظام التعليمي في المنطقة، كان لهما أثرٌ سلبي على إمكانات الأفرقاء المحليين. بيد أن المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية تضم أشخاصاً ذوي قدرات ومؤهلات، وعدد كبير منهم شباب ومطّلعون سياسياً يمكنهم قيادة مجتمعاتهم نحو إدارة ذاتية فعلية. يُتيح النفوذ الذي يتمتع به التحالف باعتباره ضامناً للحكم الذاتي في المنطقة وانحسار التهديدات الأمنية في الشمال الشرقي، فرصةً للدفع نحو لامركزية حقيقية.

• إليزابيث تسوركوف زميلة أبحاث في منتدى التفكير الإقليمي (Forum for Regional Thinking) متخصصة في الشؤون السورية والعراقية. لمتابعتها عبر تويتر @Elizrael.
• عصام الحسن باحث مقيم في دير الزور متخصص في السياسة القبلية.
• يستند هذا المقال إلى مقابلات أجراها الكاتبان مع قادة مدنيين وعسكريين ونشطاء وشخصيات قبلية ومدنيين في الرقة ودير الزور وعامودا وقزلاجق ومنبج في نيسان/أبريل 2019 وتموز/يوليو 2019.
• عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى