الصين: جسر معلَّق في الفضاء… لبنان: قدَرٌ معلَّق في الخواء

بقلم هنري زغيب*

إِنها ثلاثةُ أَحرفٍ فقط: ج، س، ر. وهي كلمة قصيرة جدًّا: جسْر. لكنها تعني مسافةً طويلةً جدًّا: 240 كلم.
أُفصِّل: نحن في الصين. في الجنوب الغربي من مقاطعة سِيشْوانْ طريقٌ سريعٌ يربط مدينة يَانّْ بمدينة كْسِشَانْغْ. اسمُ هذا الطريق السريع: “ياكْسي إِكسْـﭙْـرِس”، طولُه 240 كلم. يَـمُرُّ على 270 جسرًا، يتخلَّلُه 25 نفقًا في الجبال. كلَّف بناؤُهُ 4 مليارات دولار. استغرق بناؤُه خمس سنوات، دشَّنَتْهُ الحكومة الصينية المحلية في 10 نيسان (إبريل) 2012.
إِذا كانت علامة الطريق أَنه يُشَقُّ في الأَرض للمُشاة والركَّاب، فعلامةُ هذا الطريق السريع في الصين أَنه ليس في الأَرض ولا للمشاة. إِنه طريق معلَّق في الفضاء. أُكرِّر: طريق معلَّق في الفضاء. لا يَـمَسُّ الأَرض إِلَّا في أَوَّل مترٍ منه عند أَوَّلِه، وفي آخرٍ مترٍ منه عند الوصول.
والباقي؟ الباقي كلُّه في الهواء. طريقٌ كاملٌ من 240 كلم معلَّقٌ في الهواء. كيف؟ إِنه قائم على أَعمدة ضخمة من أَنابيبَ عاليةٍ جدًّا مُصَنَّعةٍ من الفولاذ الـمُقَوَّى بالإِسمنت، مغروزةٍ في عمق الأَرض وتعلو مئات الأَمتار حاملةً في الهواء صَحنَ الطريق الـمُعلَّق.
منظرُ الطريق، من الطائرة التي صوَّرَتْه، مُـخيفٌ لناظره فكيف لِـمَن يَسير عليه مُعلَّقًا في الهواء داخلَ سيارةٍ تَـجري بأَمانٍ لأَنَّ جانبَي الطريق في الهواء مزنَّران بسياجٍ معدنـيٍّ مُقَوّى يَـحمي من السقوط تحت، تحت، تحت إِلى مئات الأَمتار الـمُرعبة.
240 كلم في الهواء. وتَعبُر السيارات آمنةً من كلِّ خطر: هنا وديان لا ترى العينُ أَسفلَها العميق، هنا أَنهارٌ يَعبرها ركَّاب السيارة كأَنهم يرَونها من الطائرة، هنا بحيراتٌ تَسحر مناظرُها يَـمرُّ فوقها الطريقُ كيلومتراتٍ طويلةً فلا تَرتوي من جمالها العينُ ولا من نظافتِها الذائقةُ النقية، هنا أَنفاقٌ طويلةٌ طويلةٌ في الجبال لكنها مُضاءَةٌ ومكيَّفَةْ فلا خطَـرُ اختناقٍ يهدِّدُ الـمارِّين فيها بسيارتهم آمِنين، هنا احتياطاتٌ متينةٌ لـهذا الطريق المعلَّق في الهواء تَـحميه من ظُروفٍ مناخيةٍ قاسيةٍ بين ثُلُوج تتساقط على هذا العُلُوِّ وعواصفَ ثلجيةٍ تَلفح الهواءَ ومعه الطريقَ الـمُعلَّقَ في الهواء، هنا منعطفاتٌ معلَّقةٌ في الهواء، ومستديراتٌ معلَّقةٌ في الهواء، لتغيير الطريق والوُجْهة والاتجاه، كما في أَيِّ منعطَفٍ عاديٍّ أَو مستديرةٍ على الأَرض، هنا مناظرُ أَخَّاذةٌ عن وعْرٍ على الجانبَين، أَو أَدغالٍ موحِشَةٍ في البعيد، أَو جبالٍ هائلةٍ تعلو عن جانبَي الطريق السريع لكنها مُثْبَتةٌ في الأَرض وليست مُعلَّقة في الجو كهذا الطريق الآمِن بدعائمِه وأَعمدتِه وتصميمِه الهندسي الفريد في العالم، عمَّرَتْه آلافُ الآلاف من الـمعدَّات والآلات ووسائل البناء وحسابات الجسور والأَنفاق، على رأْسها حسابٌ واحدٌ وحيدٌ لعظَمة الإِنسان بعبقريته الخلَّاقة حين تُتاح له الوسائل والوسائط.
في الماضي السحيق بَــنَت الصين سُورَها العظيم بطول 8,800 كلم شَـقَّ فيها على الأَرض مُدُنًا وغابات.
في الحاضر السحيق بَــنَت الصين طريقًا سريعًا في الجو يَعلُو عن الأَرض مئَات الأَمتار: بَــنَت جسرًا معلَّقًا طويلًا في شاهق الهواء فريدًا في العالَم، في خمس سنواتٍ بَنَتْهُ، طوله
240 كلم، أَي أَطْوَل قليلًا من طُول ساحل لبنان (210 كلم).
وعلى ذِكْر لبنان، نَـحن أَيضًا تَبني دولتُنا الجسور، فها هي استغرقَت ثلاث سنوات كي تَبني جسر جل الديب، وطولُه… حَفنةُ أَمتار.
بلى: ونحنُ أَيضًا تهتمُّ الدولة بأَنفاقنا، فقبْل أَيامٍ قرأْتُ أَن “شركةً متعهِّدةً ستقوم بأَعمالِ صيانةٍ لجميع الأَعمدة والقواعد في جسْر سليم سلام”، وهو ما لا نزال نَقرأُه منذ سنوات، ولا نزال ننتظر أَن تُنقذَنا أَعمال الصيانة من الاختناق في نفَق يَـمتدُّ… حفنةَ أَمتار على الأَرض.
هناك 240 كلم في الفضاء، وهنا بضعةُ أَمتار على الأَرض. الفارقُ ليس في الـمَسافة ولا في التوصيف. الفارقُ: بين دولةٍ تُصَمِّم وتُنَفِّذ، ودولةٍ أَلغت من زمانٍ وزارةَ التصميم واستَبْدَلَتْها ب”وزارات دولة” إِكرامًا للمُحاصصات الزبائنية والسياسية والطائفية والحزبية، تلك الـمُحاصصات التي تَنخُر عميقًا قلْبَ لبنان.

• هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: email@henrizoghaib.com أو متابعته على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى