سلوك سياسي مُراهِق

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

منذ فترة طويلة نسبياً، آثرت الإبتعاد عن الكتابة لأسباب خاصة، ولكني، بالطبع، لم أبتعد عن الأحداث أو أترك جانباً الإهتمام بالشأن العام داخلياً وخارجياً. وإذ أعود إلى الكتابة فليس لزوال الأسباب التي ذكرت، ولكن لإلحاحٍ شديد أمسك بتلابيبي في هذه الفترة الحاسمة من مسيرة تونس، ومن تطورات مهمة محيطة ببلادنا ستترك بلا شك بصمات غائرة على أوضاعنا الداخلية مهما كانت نتائجها.
وللحقيقة فقد استفزّني ما بدا من طفولية، وربما مُراهقة سياسية، إتّسم بهما وضعٌ كان يتطلب الأناة في التحليل، واستقراء التفاعلات، ثم الإستنتاج قبل اتخاذ مواقف وحتى قرارات متشنّجة.
فمنذ أكثر من شهر، بدت على حزب حركة “النهضة”، أقوى الأحزاب الآن وأكثرها انضباطاً وحتى أقدمها، ظواهر تُشير إلى شيء من الفزع، وردود فعل غير مدروسة ولا لائقة بحزب كبير له قيادات متجذّرة في التجربة، ولكن ” تتآكلها ” خلافات” غير مُعلَنة، ولكنها معلومة من المتابعين الفطنين للشأن السياسي في البلاد.
ف”النهضة” المُطمئنة إلى مخزون ثابت من الأنصار (الناخبين) المُنضبطين يحوم حول 25 في المئة — تتضخّم نتائجه في عدد المقاعد في البرلمان لطبيعة نظام الإقتراع القائم على النسبية مع أعلى البقايا — أصابها خوف شديد بعد الإعلان عن نتائج إستطلاعَين للرأي تونسيين منذ بدايات أيار (مايو) المُنقضي، عززهما ما تناقلته بعض وسائل الإعلام من استطلاعات أجنبية.
ووفقاً لهذه الإستطلاعات، إنهار مخزون “النهضة” إلى النصف مما كانت تجلس عليه مطمئنة إلى أنها في كل الأحوال، ستكون “الناجح” الأول في عدد المقاعد في البرلمان، ما يؤهّلها للإرتقاء إلى الدفة الحقيقية للحكم أي رئاسة الوزراء، أو على الأقل وضع يدها عمّن يحكم تحت إشرافها، مع عدم معاودة تجربة الحكم المباشر التي تولتها في سنة 2012/2013، وكانت كارثة عليها وعلى البلاد، التي ما زالت تجر آثارها لحدّ اليوم .
وجاء استطلاع الرأي الصادر في حزيران (يونيو) الجاري ( بعدما تأخر عن موعده نصف شهر عما هو معهود) ليحوّل خوف “النهضة” إلى هلع حقيقي، بدت معه وكأنها فقدت أعصابها، وتخلّت عما تعوّدته منذ 2014 من مناورة، تجعل حقيقة الحكم بيدها، من دون أن تبرز على السطح. ومما زاد الهلع قوة نتيجة إستطلاع للرأي قامت به مؤسسة “سيغما”، ومهما قيل فيها وفي مدى مصداقيتها هي واستطلاعاتها، فإنه يبقى المؤشر الوحيد والمقياس المتاح الذي لا غنى عنه.
ولعل الهلع إزداد حدّة عندما أبرزت الأرقام ( ومهما كان تقييمها) أن “النهضة” والحلفاء المُحتَمَلين لها، واحتمال تشكيل حكومة ائتلاف معهم لا يتجاوز 78 من 217 مقعداً، أي “تحيا تونس”، و”نداء تونس” ( هذا إذا كانت للأخير إمكانية للمشاركة في الانتخابات التشريعية المقبلة طالما بقي منشقا على اثنين من الشقوق ، كلاهما يعلن أنه هو النداء، وبالتالي يستحيل عليهما قانوناً أن يترشحا بقائمتين عن حزب واحد) .
وإذا نظرنا إلى تصوّرٍ لتوزيع المقاعد نُشر على نطاق واسع ولا نعرف مدى مصداقيته، فإننا نجد أنفسنا في مواجهة النظرية المستحيلة لتربيع الدائرة:
– نبيل القروي صاحب قناة “نسمة” وصاحب “جمعية خليل الخيرية”: 68 مقعداً؛
– حركة “النهضة”: 40 مقعداً؛
– الحزب الدستوري الحر (المعروف تحت تسمية حزب عبير موسي): 30 مقعداً؛
– حزب “تحيا تونس”: 29 مقعداً؛
– التيار الديمقراطي (حزب محمد عبو): 23 مقعداً؛
– حركة “عيش تونس” وهي لا تمتلك حزباً مؤسساً: 19 مقعداً؛
– “نداء تونس”: 8 مقاعد.
على أن ما أقلق “النهضة” ومعها الحزبان التابعان “تحيا تونس” و”نداء تونس”– أكثر من هذه النتائج المتوقَّعة ولكن لا يمكن للمرء أن يعرف مدى تطابقها مع واقع إنتخابات تشرين الأول (أكتوبر) التشريعية — هو أن ثلاثة أطراف لا تريدها “النهضة” تتصدّر توقعات نتائج الإنتخابات الرئاسية، حيث تضع “سيغما ” في المراكز الثلاثة الأولى: نبيل القروي، قيس سعيد، ثم عبير موسي، ويأتي بعيدا في المركز الرابع رئيس الحكومة الحالية يوسف الشاهد ، الذي ربما كانت “النهضة” تعده ليكون العصفور النادر، المؤهّل لاحتلال قصر قرطاج.
وإذ يعتبر الكثيرون، سواء عن حق أو باطل، أن قيس سعيد لا يعدو أن يكون فقاعة إعلامية لا غير، فهل ستنحصر المنافسة في هذه الحالة من الآن إلى تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، بين نبيل القروي وعبير موسي الصاعدة باستمرار وقــــوة منذ أشهر عدة، ولا أحد يعرف أين ستقف مدارج سلم الصعود الذي ترتقيه؟
ومع النتائج المتوقعة لاستطلاعات الرأي بشأن الإنتخابات التشريعبة، فإن الخطر بدا داهماً في نظر “النهضة” و”تحيا تونس”، وتبدو قوة نبيل القروي معتمدة على قناته التلفزيونية، ولكن بخاصة تنظيمه الخيري الذي استغل فيه خير استغلال مأساة وفاة إبنه خليل القروي، في حركة شعبوية مؤثرة لا فقط ممن استفادوا من كرمه الشخصي وكرم من يتكرمون من طريقه وبواسطته.
في المقابل فإن عبير موسي ما فتئت تعمد إلى تحسين موقعها في استطلاعات الرأي، باعتماد لهجة عدائية، أخذت تخفف منها شيئاً فشيئاً، وإن حافظت على بعض الكلمات النابية، فقد سكتت عن قول أخرى، محاولة اللجوء إلى نوستالجيا الحركة البورقيبية، أكثر من (الرئيس السابق) زين العابدين بن علي، الذي تميّز عهده بفراغ إيديولوجي وفكري، رغم محاولات الصادق شعبان إعطاء تنظيرات لم تركب ولم تبق في الذاكرة. وهناك على ما يقال أن من بين مستشاريها من يحثّها، سواء صحّ هذا أو لم يكن صحيحاً، على استبطان العهد البورقيبي كاملاً، بما فيه محاولات دمقرطة الحزب الإشتراكي الدستوري في مؤتمرالمنستير الأول سنة 1972 بقيادة أحمد المستيري، أو الاصداع بالتعددية الحزبية في مؤتمر الحزب الدستوري في ثمانينات القرن الفائت، بإيعاز من محمد مزالي، وهي محاولات جادة لاعتماد توجّه ديموقراطي، وإن أجهضت فإنها كانت بوارق أمل في عتمة سلوك إستبدادي استمر طويلاً.
من هذا الهلع الذي سبق لدى “النهضة” وزعيمها راشد الغنوشي، وما شعر به يوسف الشاهد بأن السجاد يُسحَب من تحت رجليه، بعد أن تحدّى صانع مجده الباجي قائد السبسي وإبنه المدلل حافظ واعتقد أن ساعته آتية لا ريب فيها، تظافر الجهد بينهما على تغيير قواعد اللعبة الانتخابية، بتضمين شروط في المجلة الإنتخابية، ما أتي الله بها من سلطان في وقت، بدأت فيها ردهات اللعبة تشهد تفاعلاً قائماً على شروط معينة يُراد تغييرها بصورة يبدو معها وكأن الأخلاق السياسية تأباها. وسواء نجح المسعى أو فشل بعد محاولة جمع أغلبية يوم الخميس الفائت (13/06/2019)، وستتكرر المحاولة، ولا يستبعد أن تنجح، فيتم تغيير قانون اللعبة في وقت غير مناسب.
ومن الممكن إذا لم ينجح إدخال تعديلات على القانون الإنتخابي في الأيام المقبلة، فإن احتمالات أن يصبح نبيل القروي رئيساً للجمهورية التونسية تبقى واردة جداً. أما أن ينال القروي بلا حزب يسنده وماكينة انتخابية في كل الدوائر، كل هذا العدد من المقاعد الذي جاء في إستطلاع الرأي (68)، فهو أمر من ناحية المنطق يبدو صعباً، وعلى العكس فإن عبير موسي، بخاصة وهي تُغيّر باستمرار لهجتها نحو هدوء أكثر واستفزاز أقل، فإنها تبدو مرشحة فعلاً لأن تلعب أدواراً مهمة في البرلمان المقبل، علماً وأنا حريص على القول بأني وبصراحة بأن لا أصوّت شخصياً ل”النهضة” بسبب التوجه المجتمعي المخالف لتصوري الحداثي، ولا لنبيل القروي ولا لقيس سعيد معتقداً أنهما فقاعتان لا تصلحان لحكم دولة، ولا لعبير موسي التي لم تعترف للآن بأن ثورة وقعت في البلاد، وأن هذه الثورة قدّمت للوطن الحرية والديموقراطية، التي ناضل من أجلهما التونسيون طويلاً، وذلك رغم الخيبات المريرة إقتصادياً واجتماعياً ومجتمعياً، التي عاشتها بلادنا خلال 8 سنوات، والتي تدفع اليوم أحزاب الحكم، ومنها “النهضة” و”نداء تونس” و”تحيا تونس” وغيرها من الأحزاب التي شاركت في حكومات ما بين 2012 و2019، ثمنها غالياً في إبتعاد الشعب وإدارة وجهه عنها.

• عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي تونسي مخضرم، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية، كما راسل صحفاً ومجلات عربية عدة. يُمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى