لِمَن أُصَوِّت؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

يُبادرني كثيرٌ من الأصدقاء والمعارف بمجرد التحية، وأحيانا قبل التحية، بسؤال: “لِمَن ستُصوِّت في الإنتخابات المُقبلة؟” ويضيف البعض: “في الإنتخابات التشريعية والإنتخابات الرئاسية في تونس؟”.
وقد اكتشفت أن السؤال مطروحٌ على عدد كبير من الأصدقاء، وأحياناً حتى قبل التحية.
وقد مللت من الجواب النمطي الذي بت أكرره: “سابق لأوانه، فالصورة لم تتضح بعد، ونحن على بُعد أقل من ستة أشهر من الإنتخابات”. وبالنسبة إلى الأصدقاء المُقرَّبين أضيف: “أعرف لِمَن لن أُصوّت، ولي موقف حاسم، ولكني لم أُحدّد لِمَن سأُصوِّت”.
وللمُقرَّبين المُقرَّبين أقول: ” لن أُصوِّت لِمَن يدعون إلى نمط مجتمعي غير النمط الذي بدأنا على طريقه منذ عهد الملك أحمد باي في سنة 1837، والذي جسّده الحبيب بورقيبة بإصلاحاته الإجتماعية والمجتمعية، والموروث من عهود النهضة العربية ( ليس الحزب) إبتداءً من محمد علي في مصر، والطهطاوي ومحمد عبده، وقاسم أمين أب تحرير المرأة في العالم العربي، ثم الطاهر الحداد إلى بقية المصلحين التونسيين والمشرقيين. لا لن أُصوّت إذن لِمَن ينتسبون لحسن البنا وسيّد قطب، وفكر الجماعة الاسلامية في سبعينات القرن العشرين عندنا قبل مراجعات ثمانينات وتسعينات القرن عينه، التي ما زالت لم تبلغ مداها، والتي ما زالت تقف أمام حاجز تصور الدولة المدنية فلا تستطيع اختراقه مثلما فعلت الأحزاب الديموقراطية المسيحية في أوروبا. لن أُصوّت أيضاً للداعين لسياسات التجميع والتأميم ومعاداة المبادرة الخاصة، الذين تجاوزهم الزمن، فلم يهضموا بعد قرن أو إثنين المتغيرات الإجتماعية والإقتصادية للعصر، ويضعون الخطوط الحمر يميناً ويساراً من دون النفاذ إلى الواقع المُعاش داخلياً وعالمياً. إذن فإني أعرف وبعيداً من كل تحجر لِمَن سوف لن أصوت، من دون أن ينال من قناعتي مطلقاً حق تواجد الجميع على الساحة السياسية مع كل ما يستحقه فكرهم من احترام من دون تأييد أو انخراط، ومن دون أن أجد فيه ما يستجيب لمتطلبات العصر، بل على العكس يمثلون عقبة كأداء في وجه تطور المجتمع طبعاً من وجهة نظري”.
ولكن ومن الناحية الثانية فإني أجد صعوبة في تحديد لِمَن سأقترع، وهذا جوابي للسائلين على الأقل في الوقت الحاضر.
العائلة الوسطية متشظية، لا تحمل برنامجاً مُقنعاً، ولا تعتمد فكراً معيّناً، ولكن منها سأختار لِمَن سأصوّت وربما مثل الإنتخابات الماضية سألجأ للتـــصويت المُفيد. سمة هذه العائلة أنها، وفي ما عدا القليل، ليست متشبعة في الغالب بثقافة سياسية منطلقة من حقائق الواقع العالمي وصولاً إلى الواقع المحلي، ففي وقت تقوم ركائز فكرية جديدة تمت تجربتها فنجحت في عدد من البلدان الإفريقية والآسيوية وفي أميركا اللاتينية، نجد أنفسنا ما زلنا نلوك بلا وعي بحقائق واقع اليوم شعارات تجاوزها الزمن وباتت من ماض ولّى، وسأقف أمام ثلاثة أو أربعة احتمالات للإختيار وإن كان سابقاً لأوانه:
أولها: إختيار الحزب الفائز في آخر انتخابات عامة سنة 2014، أي “نداء تونس”، وكما كنت سباقاً للقول إنه كان صرحاً فهوى، فاعتقادي راسخ بأنه ما زال يهوي ويتفكك، ولعل وراء تفككه مؤسسه الذي حاول وما زال يحاول أن يفرض ابنه في محاولة توريث تجاوزها الزمن، وهو إذا استمر على مساره، فلعله لن يكون له حضور في الإنتخابات المقبلة. فهناك قيادتان كلٌّ منها تعتبر نفسها تمثل الشرعية، وبالتالي ستعد قائمات مرشحيها، وفي هذه الحالة، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه بقيادتين ولجنتين مركزيتين، فإنه وبموجب القانون لا حق لحزب واحد أن يرشح قائمتين، وإذا حصل وتقدم كل شطر بقائمته فإن القانون الانتخابي يفترض عدم القبول بهما الإثنتين، وبالتالي يخرج الحزب الأول في الانتخابات التشريعية الأخيرة من السباق تماماً، هذا إلّا إذا حسم القضاء في الجهة منهما جهة الابن المدلل، وجهة طوبال، من التي لها الشرعية للحديث باسم النداء وتمثيله، وهو أمر قد يتطلب أشهراً طويلة فيما الموعد محدد وضيق لتقديم القائمات المرشحة.
وثانيها: الحزب الجديد “تحيا تونس” المنبثق من رحم ” النداء” ولكن مع تطعيم بالكثير من الدستوريين والتجمعيين، والذي يجر خيبات سنوات الحكم الأخيرة هو وشريكته حركة “النهضة” المسؤولة معه وغيرهما على ما آلت إليه أحوال البلاد من تدهور وانتكاس. وفي حالة ما إذا خرج النداء من السباق فإنه يمكن أن يرث الأصوات العائدة إليه أصلاً، ولكن عائقه الأكبر يتمثل في أنه يجر كالكرة الحديدية الثقيلة تحالفه مع “النهضة”.
وثالثها: هذه الوافدة الجديدة عبير موسي وحزبها الذي لا يعرف أحد مَن هي قياداته غيرها، والذي يبدو أنه يسري كالنار في الهشيم، والساعي بصعوبة إلى تجميع الدستوريين والتجمعيين، وتستعمل رئيسته خطاباً غير مقبول، متنكرة لواقع فرض نفسه خلال الثماني سنوات الأخيرة، ومُستخدمةً خطاباً إقصائياً ليس من العصر، وإن كانت خففت منه خلال الأسابيع القليلة الماضية، ومتوسلةً بحنين إلى ماضٍ كانت فيه الأوضاع الاقتصادية والاجتمــــاعية للناس أفضل مما هي اليوم، و لكن مع نظام مستبد لا مجال فيه لأي حريات بل لتعسف شديد.
مع هذا الثلاثي هناك مجموعة من الأحزاب الأخرى يطفو على السطح منها حزب محمد عبو الذي يقف بين بين، وتلك مشكلته الكبرى لشق طريق سالك.
إن طبيعة نظام الإقتراع المعتمد منذ الثورة أنها لا تسمح، بحصول أي طرف على أغلبية ولو بسيطة، بحيث يفرض الإئتلاف أحياناً حلولاً مغايرة لطبيعة الأشياء، مثلما حصل في العام 2012 عندما تحالف حزب “النهضة” بمرجعيته الدينية، مع حزبين يقولان لكل مَن يريد أن يسمع أنهما حزبان مدنيان وهما حزبا منصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر، وقد دفعا ثمناً باهظاً لهذا التحالف غير الطبيعي، فتم إقصاؤهما بصفة شبه تامة في الإنتخابات الموالية في العام 2014 من طريق صندوق الإقتراع، أو مثلما حصل بعد انتخابات 2014 عندما قام توافق بين حزب مدني هو نداء تونس (وأطراف أخرى لا تختلف عنه إلا في التسمية) وحزب بمرجعية دينية ما زال لم يستطع أن يتخلص منها رغم كل ما يقوله هو “النهضة”، فسارت الأمور من سيىء إلى أسوأ وتقهقر الحال الاقتصادي والاجتماعي للبلاد بمسؤولية رئيسة مشتركة للنداء والنهضة. ويُقال إن النهضة تكوي وتحرق من يتحالف معها، وهذا يبو صحيحاً إلى حد بعيد.

* عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي تونسي مخضرم، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية ومراسلاً لصحف ومجلات عربية عدة. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني الآتي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى