خطة لنزاعٍ دائمٍ أبدي

يبدو أن “الصفقة النهائية” أو “صفقة القرن” التي تستعد إدارة دونالد ترامب لإطلاقها في العام الجديد لحل القضية الفلسطينية ستجلب أشياء كثيرة، لكن السلام ليس واحداً منها.

محمود عباس: هل ستبقى الضفة الغربية هادئة؟

بقلم جايك واليس*

يكاد لا يمرّ يومٌ دون إقدام إدارة دونالد ترامب على إتخاذ إجراءات قاسية جديدة ضد الفلسطينيين. وأحدث تحركاتها، وفقاً للتقارير الصحافية الأخيرة، هو إصدار قرار بتسريح موظفي بعثة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) وإغلاقها في الضفة الغربية وغزة.
وتأتي هذه الخطوة في أعقاب قرارات سابقة بخفض الإنفاق على برامج الوكالة الأميركية للتنمية الدولية الخاصة بالفلسطينيين، وإلغاء الدعم لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وإقفال القنصلية الأميركية في القدس، وإغلاق مكتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن. والقرار المُفترض لإغلاق بعثة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية لم يكن مفاجأة كبيرة. إذ أن مصير البعثة قد إتُخذ فعلياً بعد القرار السابق بقطع التمويل وتمرير “قانون قوة تايلور” (Taylor Force Act)، وهو التشريع الذي يدعو إلى إنهاء المساعدات الإقتصادية الأميركية للسلطة الفلسطينية إلى أن تتوقف عن دفع رواتب لمن يرتكبون أفعالاً إرهابية، أو أسرهم.
لقد دمّرت كل هذه الخطوات معاً بُنية العلاقات الثنائية الأميركية مع الفلسطينيين، التي بُنِيَت وتراكمت على مدار عقدين ونصف، كعنصر أساسي في البحث عن السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولكن هل هناك استراتيجية أساسية وراء هذه الخطوات؟ هل تعتقد إدارة ترامب حقيقة أن معاقبة الفلسطينيين يُمكن أن تُجلبهم إلى طاولة ما يسمى بـ “الصفقة النهائية” أو “صفقة القرن” التي وعد بها الرئيس دونالد ترامب، أم أن لها أهدافاً أخرى؟
الواقع أن الصدع بين إدارة ترامب والفلسطينيين بدأ بقرار واشنطن بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. وبرد فعل لم يكن مفاجئاً لأحد أعلن الفلسطينيون عن غضبهم. قطعت منظمة التحرير الفلسطينية الإتصالات مع المسؤولين الأميركيين ونظّمت حركة “حماس” سلسلة من الإحتجاجات في غزة تطورت إلى مصادمات عنيفة مع القوات المسلحة الإسرائيلية. رداً على ذلك، بدأت الإدارة الأميركية سلسلة من الخطوات العقابية، بقطع المساعدات وإغلاق المكاتب الديبلوماسية.
وقد وصف ترامب تفكيره في تغريدتين في كانون الأول (يناير) 2018:
“لم ننفق مليارات الدولارات على باكستان فقط من أجل لا شيء، ولكن أيضاً على العديد من الدول الأخرى، وغيرها. وكمثال على ذلك، ندفع للفلسطينيين مئات الملايين من الدولارات في السنة ولا نحظى بالتقدير أو الإحترام. حتى أنهم لا يريدون التفاوض على … ”
“… معاهدة سلام مع إسرائيل. لقد أخرجنا القدس، الجزء الأصعب من المفاوضات، خارج طاولة المناقشات، لكن إسرائيل، لذلك، كان عليها أن تدفع أكثر. لكن مع عدم رغبة الفلسطينيين في الحديث عن السلام، لماذا يجب أن نمنحهم هذه المدفوعات المستقبلية الضخمة؟”
كما هو الحال مع غالبية تغريدات ترامب، فقد كانت طويلة بالنسبة إلى الإتهامات وقصيرة النظر بالنسبة إلى الخطاب العقلاني. للوهلة الأولى، يبدو أن نهج الإدارة يقوم على بذل جهد فادح للضغط على الفلسطينيين لقبول خطة سلام أميركية بمجرد طرحها. في “فن الصفقة” لترامب، تركز اللعبة قبل أي شيء على وضع ظهر الخصم أمام حائط مسدود. ولكن إذا كان هذا هو هدف الولايات المتحدة، فقد لعبت أوراقها بشكل سيئ للغاية. من خلال إتخاذ مثل هذه الخطوات القاسية في بداية مساعيها للتوسط في صفقة، فقد وضعت الفلسطينيين في وضع لا يمكن أن يخسروا فيه سوى القليل من الحوافز وليس لديهم حافزٌ يُذكر للتعاون بمجرد تقديم الخطة. وحتى إدارة ترامب يجب أن تفهم أنه من غير المرجح أن يعمل الضغط في هذا الصراع القديم والمرير. إن القضايا المطروحة على الفلسطينيين أساسية بالنسبة إلى إحساسهم بالقومية ولا يُمكن التفاوض بشأنها بسهولة كما لو كان ذلك مجرد نزاع تجاري آخر.
ربما يكون التفسير الأفضل هو أن إدارة ترامب لا تحاول حقاً حل النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، بل تسعى إلى تعزيز التعاون بين إسرائيل والدول العربية، بخاصة مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر. سيكون هذا النهج متسقاً مع أهداف الإدارة الأخرى تجاه إيران وسوريا. في هذه الحالة، لا يحتاج القادة العرب إلى إتفاق فعلي بين إسرائيل والفلسطينيين، بل فقط ظهور عملية سلام لتهدئة شعوبهم في الوقت الذي يسعون إلى تحقيق مصالح مشتركة مع إسرائيل. وبما أن هناك القليل الذي يمكن للفلسطينيين القيام به لمنع التقارب الإقليمي، فليست هناك حاجة إلى معالجة مخاوفهم.
ولكن حتى هذا التفسير لا يُفسّر تماماً قسوة خطوات إدارة ترامب. بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لم تتوقف فقط عن تمويل السلطة الفلسطينية والأنشطة الحساسة سياسياً مثل تلك التي تديرها “الأونروا”، فقد قطعت المساعدات الإنسانية عن المستشفيات غير التابعة للسلطة الفلسطينية في القدس الشرقية وبرامج التعاون الإنسانية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وقد أغلقت قنوات الإتصال التي كانت موجودة في الماضي من خلال القنصلية الأميركية في القدس وبعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.
كل هذا يشير إلى أن الدافع الحقيقي للإدارة هو أكثر شراً: لإعادة وضع أساس جديد للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. فبدلاً من الاستمرار في التعامل مع هذا الأمر على أنه نزاع بين مجموعتين قوميتين تتنافسان على أراضٍ يعتبرانها وطنهما، يبدو أن إدارة ترامب تحاول إعادة صياغة وضع الفلسطينيين كأقلية من الناطقين باللغة العربية ضمن إسرائيل الموسَّعة. لذا سعت سياستها إلى إخماد أي نشاط أو برنامج يعامل الفلسطينيين كمجموعة قومية منفصلة عن إسرائيل.
إذا كان هدف إدارة ترامب هو بالفعل إعادة وضع قاعدة أساسية جديدة للنزاع، فمن المتوقع أن تتجاوز خطتها مناقشة جادة لقضايا الوضع النهائي التاريخي مثل الدولة الفلسطينية أو القدس أو إعادة اللاجئين والتركيز بدلاً من ذلك على القضايا الإقليمية والتعاون الاقتصادي. في مثل هذا السيناريو، من المرجح أن تتجنب الخطة الإشارة إلى دولة فلسطينية ذات سيادة وتكتفي بالإشارات العامة إلى “الفلسطينيين الذين يحكمون أنفسهم” والتي تكون أكثر إنسجاماً مع الحكم الذاتي منه إلى السيادة. غير أن النتيجة المنطقية لهذا النهج ليست السلام بين شعبين، بل صراعٌ دائمٌ وأزلي في كيانٍ وحيد تديره إسرائيل بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.
وتتوافق استراتيجية ترامب الظاهرة بشكل كامل مع الآراء السائدة بين أطراف اليمين الإسرائيلي، بما في ذلك قانون الجنسية (أو القومية) الذي تمّ تبنيه أخيراً. لكن في مواجهة مثل هذا النهج القاسي الذي تتبعه الإدارة الأميركية، لا يملك الفلسطينيون الكثير ليخسروه ولا يوجد سبب للتعاون مع الولايات المتحدة أو حكومة يمينية في إسرائيل. والسؤال الآن: هل ستظل الضفة الغربية وقطاع غزة هادئين في ظل مثل هذه الظروف؟

• جايك واليس زميل كبير غير مقيم في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، وتركز أبحاثه على القضايا الإسرائيلية الفلسطينية، وتونس، ومكافحة الإرهاب.
• كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى