المأزق السياسي في لبنان سببه محاولة نظام الأسد إعادة تأكيد نفوذه في البلاد

منذ أكثر من سبعة أشهر ورئيس الحكومة اللبنانية المُكلَّف سعد الحريري يحاول تشكيل حكومة تعكس نتيجة الإنتخابات التشريعية التي جرت في أيار (مايو) الفائت. ولما توصل أخيراً إلى الإعلان عنها أطلق “حزب الله” شرطاً جديداً، قال عنه كثيرون أنه شرط سوري، عثّر عملية التشكيل وجمّدها إلى فترة قد تطول كثيراً.

السيد حسن نصرالله: شرطه محلي أم سوري؟

بقلم جوزيف باحوط*

في الثاني والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر)، وبينما كان رئيس الحكومة المُكَلَّف سعد الحريري يستقبل كبار الشخصيات في مناسبة عيد الإستقلال في القصر الجمهوري اللبناني، إنسحب فجأة من خط الإستقبال الذي يجمعه مع رئيسي الجمهورية ومجلس النواب لبضع دقائق بحجة مُفترَضة لشرب كوب من الماء. بيد أن السبب الحقيقي هو أنه لاحظ وصول السفير السوري في لبنان، علي عبد الكريم علي، على رأس وفد من السفارة، وأنه لا يريد أن يصافحه.
كانت هذه هي السنة الثانية على التوالي التي قام فيها الحريري بمثل هذه الخطوة. لكن هذا العام كان السياق مختلفاً جداً. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، كان الحريري رئيس مجلس الوزراء فعلياً وليس بالتكليف. ترأس حكومة “الوحدة الوطنية” التي تشكلت بعد انتخابات رئاسية توافقية قبل عام. وكان يستعد لقيادة كتلته البرلمانية الكبيرة في الإنتخابات التشريعية التي كان من المقرر إجراؤها في أيار (مايو) 2018.
كان الوضع في سوريا مختلفاً أيضاً في العام 2017. كان نظام الرئيس بشار الأسد في وضع صعب حينذاك لأنه لم يستعِد السيطرة بعد على عدد كبير من المناطق التي تُسيطر عليها المعارضة. ولكن، في غضون ذلك، إستعاد النظام العديد من هذه المناطق، باستثناء محافظة إدلب والمناطق الواقعة تحت السيطرة التركية والأكراد السوريين. هناك الآن حديث عن إعادة بناء الإقتصاد، ولكن أيضاً شبكات النظام، في عملية تتمحور حول إعادة صياغة بعض أحكام الدستور قبل التوجه إلى إنتخابات رئاسية في العام 2021.
الحريري، من جانبه، صار أضعف بكثير مما كان عليه. لقد فقدت كتلته البرلمانية مقاعد في انتخابات أيار (مايو) الفائت، ونجح عددٌ من منافسيه السنّة الذين يدعمون النظام السوري في دخول البرلمان. ومنذ أكثر من سبعة أشهر وهو يناضل لتشكيل حكومة من خلال صيغة تعكس المشهد السياسي الجديد، الذي سمح له بالإحتفاظ بمستوى أدنى من السلطة السياسية والحفاظ على ما تبقى من مكانته. وعلى نحو متزايد، هناك حديث بأن الحريري قد يضطر للتنحي ويسمح لشخص آخر بتشكيل حكومة جديدة.
والتفسير السطحي للمأزق هو أن ميزان القوى المحلي الناتج من الإنتخابات أنتج حقائق لا يُمكن ترجمتها بسهولة إلى صيغة حكومية جديدة تُرضي جميع الأطراف. في الواقع، على مدى أشهر، إضطر الحريري إلى اجتياز سلسلة من العقبات السياسية من خلال إعادة توزيع الحصص في حكومته من أجل تلبية مطالب جميع الأطراف. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن حكومته كانت على وشك أن تتشكل، فإن “حزب الله” وضع شرطاً أدّى إلى وقف العملية برمتها، وأظهر أن المشكلة أكثر عمقاً من مسألة حصص.
في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر)، طالب الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، بتعيين وزير سني مؤيد لسوريا في الحكومة، وأن يكون ذلك على حساب حصة الحريري في الحكومة. وأكد نصر الله أن هذا الشرط تم تحديده منذ بدء المشاورات حول تشكيل حكومة جديدة وهو ما إعترف به الحريري في وقت لاحق. لكن رئيس الوزراء المكلف أضاف أنه أبلغ الرئيس ميشال عون بأنه رفض مثل هذا الطلب باعتباره إنتحاراً سياسياً له.
غير أن ما لم يقله الحريري هو أن شرط “حزب الله” كان منذ البداية مطلباً ردده وضخّمه النظام السوري. وكان السوريون أكدوا لمحاوريهم في بيروت أن الحريري لن يصبح رئيساً للوزراء إذا لم يلتزم بإعادة تأسيس “العلاقة المميزة” التي كانت قائمة بين لبنان وسوريا قبل العام 2005، والتي تضرّرت بشدة بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري والد رئيس الوزراء المُكلَّف في ذلك العام، حيث إشتبه بقوة في تورط سوري في الجريمة.
وراء إصرار “حزب الله” على إشراك السنّة المؤيدين للأسد في الحكومة، ورفض الحريري العنيد لقبول ذلك، يجب على المرء أن ينظر إلى العوامل الإقليمية المعقدة، كما هو الحال في السياسة اللبنانية في كثير من الأحيان. منذ الإنتخابات، تطورت الأوضاع الإقليمية في اتجاهات أدّت في بعض الأحيان بالجهات اللبنانية المتنافسة إلى الرهان على الظروف التي من شأنها تعزيز قوتها التفاوضية.
على سبيل المثال، دفعت المجموعة الجديدة من العقوبات الأميركية المفروضة على إيران الكثيرين إلى الإعتقاد بأن النظام في طهران يُمكن أن يضعف بشدة. وجاء ذلك مع فرض مزيد من العقوبات على “حزب الله”. مثل هذه التطورات قد تكون سبباً في أن الحزب قد يميل الآن إلى استخدام لبنان كدرع، سواءً إنسانياً واقتصادياً، للإشارة إلى أنه إذا كان “حزب الله” سيغرق، فكذلك لبنان. قد تكون هذه مقامرة محفوفة بالمخاطر، حيث أنه إذا أُجبر الحريري على التخلي عن تشكيل حكومة، فإن “حزب الله” قد يجد نفسه من دون عازل ملائم بين الحزب والمجتمع الدولي. ولأن لبنان يُعاني من أزمة إقتصادية وخيمة، فإن أي تأخير يُمكن أن يُعجّل أيضاً بانهيار إقتصادي تتعرض فيه القاعدة الإجتماعية للحزب أكثر من غيرها، تاركةً الباب مفتوحاً أمام مخاطر الثورة الإجتماعية في بلدٍ، حتى الآن، نجا من الإضطرابات العربية.
ثم هناك سوريا. مع احتمال إنتصار النظام في محافظة إدلب الذي يلوح في الأفق، وإصرار روسيا على إعادة تأهيل الرئيس السوري بشار الأسد من خلال عملية إعادة الإعمار، يُمكن أن يكون لبنان أول بلد سيتعين عليه التكيّف مع هذا الواقع الجديد. إن رغبة الحريري المُعلنة في أن يربح لبنان من إعادة البناء السورية تضع رئيس الوزراء المكلف في موقف أكثر ضعفاً. ولهذا السبب لاحظ المعلقون الساخرون أن الحريري، حتى لو سعى إلى الهروب من تحية لوفد السفارة السورية في يوم الاستقلال، قد يضطر في يوم آخر إلى شرب الكأس المسمومة لتأييد بشار الأسد نفسه – على الأقل إذا أراد العودة إلى السلطة والحكم.

• جوزيف باحوط باحث زائر في برنامج كارنيغي للشرق الأوسط. تتركّز أبحاثه على التطورات السياسية في لبنان وسوريا، والتداعيات الإقليمية للأزمة السورية، وسياسات الهوية في أرجاء المنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى