حين شعبٌ كاملٌ يُصابُ بالـ”أَلزْهَايْـمِر”

بقلم هنري زغيب*

مرضُ الأَلزهايمر، أَكثرُ أَعراض الـخَـرَف شُيوعًا، ينجُمُ عن إضطرابات في الدماغ تُسبب فقدان المهارات العقلية والإجتماعية، إِذ تتدهور خلايا الـمُخ وتموت فتتراجع معطيات الذاكرة والوظائف الذهنية. من هنا أَنَّ الـمُصاب بالأَلزهايمر يبتعدُ عن الحاضر فلا يَذْكُرُهُ ولا يتذَكَّرُهُ، ولا يعود يعرف كل مَن وما أَمامه، فيما تـبقى في باله البعيد ذكرياتٌ من الـماضي، قريبِه والأَبعد، يستعيدُها أَسماءَ وأَشخاصًا وتفاصيل، ويُعيدُها تركيزًا على نقاطٍ فيها ومحطاتٍ وَوُجوهٍ وأَخبار.
وتبقى عوارضُ الأَلزهايمر محدودةً طالـما انعاكاساتُها محصورةٌ في الفرد الـمُصاب، مع ما يتأَتَّى عنها من سلوكيَّاتٍ قد لا تكون حميدةً بل مؤْذيةً إِيَّاه أَو ذويه ومُـحيطَه. غير أَنَّ الخطر يصبح أَفدح وأَخطَر وأَفظَع، حين يصيب الأَلزهايمر شعبًا بكامله ووطنًا بكامل عناصره وبلادًا بكل ما فيها، فيكون الأَلزهايمر الـجَماعيُّ لا شفاءَ من عوارضه مهما تعدَّدَت الـمُعالجات.
أَقول هذا، وأَخشى أَن يكون معظم الشعب اللبناني اليوم مصابًا بالأَلزهايمر الجماعي، حتى أَنه لا يَذكر الحاضر، أَو لا يريد أَن يَذكُرَه أَو يتذكَّرَ مفاصلَه الراهنةَ الحاليةَ لـما فيها من بَشَاعاتٍ ومآسٍ وصعوباتٍ وأَخطار راعبة، فيستديرُ إِلى الـماضي ويذكره دائمًا بِـحَنينٍ نوستالـجِيٍّ ويتذكَّر بِـحسرةٍ ما فيه من تفاصيل وأَحداثٍ وحالاتٍ ومحطَّات وأَشخاص، ويتنهَّد زافرًا: “رزق الله…”.
وتشمل هذه الـ”رزق الله” كلَّ ما يذكره من أَيام الـماضي أَيام كانت في لبنان كهرباء 24/24، ومياه 24/24، وطرقات آمنة 24/24، وبيئةً غير ملوَّثة 24/24، وفرَص عمل 7/7، ومعيشةً مقبولةً 30/30، ووطنًا سعيدًا 12/12، بنهاراتٍ هادئةٍ وسهراتٍ هانئةٍ في صالات سينما ومسارح ومعارض وبيروتَ اللؤْلُؤَةِ التي كان يحسدنا عليها كلُّ الشرق العربي.
ما الذي جرى؟ كيف تَـحوَّل الوطن إِلى ما آل إِليه؟ ولـماذا صار الذي صار؟
طبعًا ليس الشعبُ مسؤولًا عما جرى وتـحوَّل وصار، وليس مسؤولًا عن هربه من الحاضر الـمُخيف إِلى رزق الله على أَيَّام زمان.
مَـن الـمَسؤُول؟ الـمسؤُول فريقٌ من سياسيين حكموا البلاد منذ سنواتٍ فتوَلَّوا قيادتها جدودًا إلى أَبناءٍ إِلى أَحفاد، وسقَوا شعبنا جرعاتٍ من الـمرارة والضنى والعذاب والحكم الزبائني والإِقطاعي والعشائري والإستنسابي والأَزلامي والـمَحاسيبـيّ، فضربوا ذاكرة الحاضر ورمّدوها فلم يبقَ لشعبنا سوى فتحاتٍ في ذاكرة الـماضي يدخلون منها إلى الـماضي يستأْنسون بـما كان، يتذكرون كيف كان، ويتأَوّهون: “رزق الله على أَيام زمان”.
يوجعني أَن أُوَصِّف الحالة على هذه الصورة، لكنها ماثلةٌ أمامي كيفما اتجهتُ وأَينما حللْتُ ومعَ مَن تكلَّمتُ، حتى بات الحنين النوستالجي إلى الماضي سمة الجميع وحديث الجميع وألزهايمر الجميع يضرب شعبًا كاملًا فيهرب من حاضره إلى ماضيه عوض أن ينظر من حاضره إلى مستقبله، ومن يومه السعيد إلى غده العتيد.
هذه هي المأْساة الأخطر: أن ينتقل الأَلزهايمر من مرض إِفراديّ إِلى مرض جَـماعيٍّ يُصيب في بلدٍ خلايا النظام فيضرب وعيَ شعبٍ كاملٍ يروح يركض إِلى أَمسه من دون وعي غائبًا عن حاضره الـمرعب، بسبب من يَسْتَولُون على وعيه وقُدُراته الذهنية والعقلية فيُدّمرونها كل صباح بِـجُرعات مُـخَدِّرةٍ من العهود والوعود وكَذَاب المواعيد.

• هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى