هل يَحمِل تَوَتُّر الأسواق الناشئة في طياته بوادر أزمةٍ إقتصادية أخرى؟

تعرف غالبية الأسواق الناشئة توتراً في إقتصاداتها وإنهياراً في عملاتها الأمر الذي دفع بمعظم الخبراء إلى النذكير بالوضع الذي كان سائداً قبل الأزمة الإقتصادية في العام 2008 وكيف كان مماثلاً لما يحصل الآن. فهل نحن على أبواب أزمة مالية جديدة؟

العملة التركية: وضعها ليس في أحسن حال.

لندن – باسم رحّال

يرى بعض الخبراء أنه ينبغي إصدار إعفاءات عن ديون حكومات الأسواق الناشئة إذا كانت تعيش، وتتعامل مع، حالة من الإرهاق المالي والإقتصادي الذي قد يؤدي إلى أزمة. لمدة عشر سنين حتى الآن، إنتقلت هذه الدول من فوضى مالية إلى أخرى، نجمت إلى حد كبير عن أحداث وقرارات خارجية لا تُسيطر عليها. ويبدو حالياً أن الأمور تتحوّل مرة أخرى إلى فوضى مع تضاؤل المستثمرين العالميين في الأرجنتين وتركيا وإندونيسيا، من بين إقتصادات أسواق ناشئة أخرى، مما تسبب في إنهيار عملاتها.
مع تطور المشاكل في دولة تلوَ الأخرى في أواخر هذا الصيف، كان بعض المراقبين حريصاً على الإشارة إلى أن أسباب الأزمات الاقتصادية الفردية مختلفة تماماً، مُدّعياً أنه لا ينبغي القفز إلى الإستنتاج بأن الأزمات أصبحت مُعدية. إن تركيا ليست كالأرجنتين، مثلما تختلف مشاكل إندونيسيا عن قضايا الهند. إن النظرة الأساسية لهذه الحجة – عدم المبالغة في تبسيط الأحداث المُعقّدة – مهمة وصحيحة على حد سواء. إن هذه الحالات مُتميّزة في العديد من الطرق الرئيسية.
مع ذلك، من المستحيل فهم التحديات التي تواجه الأسواق الناشئة اليوم بمعزل عن بعضها البعض. إن طبيعة النظام المالي العالمي، الذي يتم فيه دمج نظم الدول المالية الوطنية، تحدّ من قدرة الحكومات على التحكّم الكامل في مصير إقتصاداتها. إن مصيرها ليس مستقلاً تماماً عن بعضها البعض.
الواقع أن هناك ثلاث حقائق مهمة حول التمويل العالمي يُمكِن أن تُساعد على تفسير وتوضيح وشرح سبب ذلك.
أولاً، إن النظام المالي الدولي يتركّز ويرتكز بشكل شديد على بلد واحد وعملته: الولايات المتحدة والدولار. وبالتالي، فإن الأحداث والقرارات السياسية في أميركا تؤدي إلى ردود فعل من الأسواق ذات التأثيرات العالمية. وقد وجد العديد من الدراسات الحديثة أنه عندما تكون أسعار الفائدة الأميركية مُنخفضة، وعندما تكون الولايات المتحدة مصدراً صافياً لرأس المال، تواجه الإقتصادات الأجنبية طوفاناً من تدفقات رأس المال الأجنبي. ولكن عندما تنقلب الأوضاع في بلاد العم سام، فإن الأموال تتدفق هاربةً بالسرعة التي وصلت بها. وفي كثير من الحالات، يُمكن أن يؤدي ذلك إلى أزمة عملات وأزمات مصرفية. ولا يحتاج المرء إلى أن ينظر بعيداً للعثور على أمثلة لهذه الظاهرة على مدى العقد الفائت.
في خريف العام 2008، مع تطور الأزمة المالية العالمية، سحب المستثمرون أموالهم من إقتصادات الأسواق الناشئة بشكل جماعي، طالبين سلامة وضمانة الدولار. وشهدت البلدان التي تُعاني من هذه التدفقات الخارجية العاصفة إنخفاضاً مفاجئاً في الوقت الذي تحطمت فيه عملاتها ومعدلات نموها.
في العام التالي، عادت رؤوس الأموال إلى الإقتصادات عينها، كرد فعل للمستثمرين على تخفيضات غير مسبوقة لأسعار الفائدة وشراء السندات من جانب الإحتياطي الفيديرالي الأميركي. إستجابت الحكومات في الأسواق الناشئة، حيث اشتكت بصوت عالٍ من التأثير المزعزع للإستقرار الذي تُحدثه تدفقات رأس المال الأجنبي في إقتصاداتها.
بعد ذلك، في العام 2013، فيما أشار بنك الإحتياطي الفيديرالي إلى أنه سيُنهي قريباً برنامجه الهائل لشراء السندات، والمعروف باسم التخفيف الكمي، وستبدأ أسعار الفائدة في الإرتفاع في نهاية المطاف، فقد تخلّى المستثمرون مرة أخرى عن الأسواق الناشئة. لذا إنخفضت قيمة العملات بسرعة، خصوصاً بين “الدول الخمس الهشّة” – وهو مصطلح سيئ السمعة صاغه أحد المحللين في بنك “مورغان ستانلي” لوصف البلدان الأكثر عرضة لتضييق البنك المركزي الأميركي: تركيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا وإندونيسيا.
اليوم، يتكَشَّف وضع مُماثل. ينمو الإقتصاد الأميركي بأسرع معدل له منذ سنوات. والأهم من ذلك، أن التضخم في الولايات المتحدة يرتفع، مما دفع الكثيرين إلى التنبؤ بأن بنك الإحتياطي الفيديرالي سيزيد من وتيرة رفع أسعار الفائدة. وهذا يجعل الأسواق الناشئة أقل جذباً نسبياً كوجهات إستثمارية ويشرح، جزئياً، لماذا يغادر رأس المال الأجنبي مرة أخرى.
وهذا يقودنا إلى الحقيقة الثانية حول التمويل العالمي التي تساعد على تفسير الوضع الحالي: يستخدم المستثمرون الدوليون الطرق المختصرة التي تضع البلدان في فئات واسعة عند إتخاذ القرارات حول المكان الذي ينبغي لهم نقل أموالهم إليه. وقد أظهرت الأبحاث الحديثة أن تصورات المستثمرين للمخاطر في أسواق وطنية مُحدَّدة تعتمد بشكل كبير على كيفية رؤيتهم للمخاطر في أسواق “الأقران” المماثلة.
على سبيل المثال، فإن مواقف المستثمرين تجاه البرازيل ليست مجرد إنعكاس لأساسيات البرازيل الإقتصادية. بدلاً من ذلك، تتأثر مواقفهم بشكل مباشر بمدى الخطورة التي ينظرون بها إلى دول أو أسواق أميركا اللاتينية الأخرى ذات المستويات المماثلة من تطور السوق. إذا كانت هناك تفاحة واحدة سيئة في المجموعة، يُمكن أن ينتشر العفن إلى سلة الفاكهة الكاملة. خذ إنهيار السوق الجماعي، ثم اللامبالاة، لدول مجموعة “بريكس” (برازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب أفريقيا).
ثالثاً، وأخيراً، لا يستطيع المرء فهم الوضع الحالي الذي يواجه الأسواق الناشئة من دون الإدراك بأن الأسواق المالية مُعرَّضة لسلوك القطيع – وهو ما وصفه الإقتصادي “جون ماينارد كينز” في السابق بمنطق “مسابقة الجمال”. المستثمرون الإستراتيجيون العقلانيون يُدركون بأن قراراتهم الإستثمارية الخاصة يجب أن تكون مُطّلعة ومبنية على المعرفة وأبعد بكثير من حساباتهم الشخصية حول المخاطر والمكافآت التي يواجهونها في الأسواق الوطنية المختلفة. بدلاً من ذلك، يجب أن تؤثر قراراتهم بشكل كبير في كيفية تصديق المستثمرين الآخرين للظروف المُتكّشّفة.
سيحسب المستثمر العقلاني أن المستثمرين الآخرين سوف يستجيبون لتقوية إقتصاد الولايات المتحدة من طريق سحب الأموال من أسواق السندات والأسهم في أماكن مثل الهند أو جنوب أفريقيا وتحويل أموالهم إلى الأسواق المالية الأميركية. وهذا يعني أنه سيكون هناك الكثير من صناديق التحوّط وغيرها من المؤسسات الاستثمارية التي تتطلع إلى مقايضة وصرف الروبية والراند المُنخَفضَين بالدولارات ذات القيمة المرتفعة المتزايدة. في هذه الحالة، حتى لو إعتقد المستثمرون العقلانيون أن الإقتصاد في الهند أو جنوب إفريقيا قوي ومستقر، سيكون من الغباء ألّا يفعلوا ما يتوقعونه من الآخرين، لأن ذلك سيؤدي إلى خسائر كبيرة.
لذا، نعم، صحيح أن أزمة العملة في الأرجنتين ليست مماثلة لأزمة تركيا. إن بوينس آيرس على علاقة جيدة مع واشنطن، وقد حصلت على واحدة من أكبر حُزَم الإنقاذ من صندوق النقد الدولي بلغت 50 مليار دولار. ومع ذلك لا تزال الأسواق غير ُمقتنعة بأن الموارد تأتي بسرعة كافية. من ناحية أخرى، تفاقمت مشاكل أنقرة بفعل العقوبات الأميركية والوضع السياسي الذي لا يلين حيث يفرض الرئيس رجب طيب أردوغان نفسه وقراراته بشكل واضح على إستقلال البنك المركزي. وحالياً تتعرّض الهند واندونيسيا وجنوب أفريقيا وبلدان أخرى لخطر الأسواق المالية التي لديها ظروف فريدة خاصة بها أيضاً.
ومع ذلك، سيكون من الخطأ المُبالغة في التشديد على فروقات كلّ من هذه الحالات. هناك عوامل كبيرة وشاملة تلعب هنا. أصبح المركز المالي العالمي (أميركا) جذاباً بشكل متزايد للمستثمرين، ويمتصّ السيولة من بقية العالم. المستثمرون في الإقتصادات الناشئة والنامية لا يحكمون على هذه الأسواق على أساس مزاياها وحدها. بل إنهم يُعمّمون بالنسبة إلى المخاطر المُرتبطة بمناطق بأكملها وتصنيفات السوق في البلدان، حيث يربطون مباشرة المصير المالي لعشرات البلدان.
وأخيراً، يتوقع المستثمرون سلوك زملائهم من مديري الأموال لاتخاذ القرارات على أساس هذا التفكير الاستراتيجي – وعقلية القطيع. وبينما يحسبون بأن آخرين يوشكون على التوقف والهرب، فليس أمامهم من خيار سوى فعل الشيء نفسه.
في النظام المالي العالمي المترابط اليوم، تكون الأزمات مُعدية على الدوام. ما يتبقّى لنا أن نرى هو ما إذا كان المرض الحالي سيبقى برداً طفيفاً أو يتطور إلى عدوى أخرى طويلة الأمد ومُكلفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى