من يدفع فاتورة الإرتفاع المُشِطّ للأسعار في تونس؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

إرتفعت الأسعار منذ بداية السنة بصورة مُشِطّة في تونس، وقفز مؤشر غلاء المعيشة في البلاد بصورة غير مسبوقة. وإذ لم يبلغ بعد ما حصل سنة 1982 عندما رفع الوزير الأول محمد مزالي الأسعار ـ في قرار معاكس لكل الذين نصحوه بـزيادة 20 ديناراً ورقة تحكّ ورقة ـ حيث قفز معه المؤشر كما يقولون 15 في المئة، فمن المتوقع أن تستقر الأسعار عند النسبة العالية الحالية إن لم تشهد تزايداً.
إشتكى الناس ولهم الحق من وضع إهترأت فيه طاقتهم الشرائية، وتراجعت بشكل كبير، هذا طبيعي.
أما غير الطبيعي فهو أن تُقدم مؤسسات تحفل بالإقتصاديين ولنقل حتى المُتعلِّمين، بما فيها الإتحاد العام التونسي للشُغل على التنديد والتهديد والوعيد.
لنبدأ ونقول ـ وأنا لا أُعطي دروساً لأحد ـ أن الأسعار التي لا تخضع في بلادنا كما في سائر بلاد العالم للقرار الإداري الذي جرّبناه فظهر فشله، بل لقاعدة العرض والطلب، لنستمر ونقول أن السعر هو محصلة تكاليف يدفعها المنتج والوسيط وتنتهي عندما توافقنا على تسميته بالوكال، لنواصل ونقول أن وفرة العرض تردع الارتفاع في السعر، لكن بعد حساب الأكلاف المختلفة، فلا أحد يستطيع أن يواصل البيع بالخسارة، لا سلعاً ولا خدمات، بل مآله الإفلاس والهروب، كما هو حال منتجي الحليب حالياً.
من هنا نصل إلى إستنتاج لا مفر منه، وهو أن غلاء الأسعار حالة مرضية، تُنبئ كما هو المحرار (الترمومتر) عن مرض كامن، وبعكس ما يعتقد البعض فهو دليل مرض في العمق ينبغي علاجه، لا بحبوب أسبيرين بل أحيانا بعلاج قوي بالمضادات الحيوية، وفي هذه الحالة معالجة الداء من الدواء عينه أي برفع سعر المواد والخدمات لأمرين :
أولهما تغطية الكلفة والتمكين من فائض للربح وربما الإستثمار.
وثانيهما لردع الاستهلاك المفرط فالسعر هو الرادع الأكبر ضد التبذير.
وفي الغالب فإن إرتفاع السعر، إلا في حالات الإحتكار ولا ننكر وجودها، يكون حافزاً في مديين متوسط وطويل على تحقيق المعادلة بين حاجة السوق ومتطلباتها.
من هنا لعلّ رفع الأسعار ولو بطريقة مُشِطّة يبدو وكأنه ظاهرة وإن لم تكن صحية فلا بدّ منها لخلق التوازن الضروري.
لنأخذ مثالين على ذلك: المثال الأول هو رفع سعر المحروقات. فقد إرتفع السعر الدولي بحيث ضغط على حجم نفقات الدولة، فمن 54 دولاراً قبل تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي إلى 78 دولارا للبرميل حالياً، وهو مرشح للزيادة.
المثال الثاني هو سعر الحليب، فلقد وصل الأمر بالمنتج إلى حدّ غلق مؤسسات الأبقار الحلوبة، وتجفيف السوق من الحليب، بعد أن بات السعر المدفوع للمُنتج غير مجزٍ، بل ربما بتسجيل خسارة أمام إرتفاع كلفة الإنتاج نتيجة إنهيار الدينار التونسي كأحد الأسباب.
إذن نصل إلى لبّ المشكلة، فالذين ينادون بأن تبقى أسعار المحروقات مثلاً أو الحليب كمادتين مُختلفتين على حالها، إنما ينادون بأحد أمرين:
بالنسبة إلى المحروقات فإنهم سيدفعون الثمن بصورة غير مباشرة من خلال أموالهم المُجمّعة في خزائن الدولة كسعر اصطناعي لتلك المادة، إذ لا مناص من أن يكون هناك من يدفع، وإذا دفعت خزينة الدولة فإن المواطن هو الدافع النهائي من طريق الضرائب التي يدفعها، وفي هذه الحال فإنه لا مناص من أن تزيد الدولة من ضرائبها لتتمكن من دفع القسط الذي لم يدفعه المواطن مباشرة.
وفي الحالة الثانية، فإذا أبقي سعر الحليب على حاله، بينما ترتفع أسعار كلفة إنتاجه من علف ويد عاملة وأدوية ونقل باعتبار غلاء البنزين والمازوت، فإن المنتج الذي يصبح في حال عدم التمكن من تكاليفه سيكفّ عن الإنتاج ويبيع قطيعه فيقل الحليب ويتم استيراده ويكون ثمنه أعلى.
إذن من يظن خطأ، بأن هناك من يدفع مكانه دولة أو فرداً أو مجموعة فهو واهم، فثمن الكلفة لا بدّ أن يتم تسديده لا محالة، لذلك لا ينبغي أن نستغرب غداً عندما يرتفع سعر النقل، وهذا هو الطبيعي بعد إرتفاعين في سعر المحروقات — ونتوقع أنها ستكون متبوعة على الأقل بارتفاع آخر، إذا قفز سعر البرميل بعد الشح المنتظر في الخام نتيجة الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على إيران، والذي سيخفض المعروض في السوق بملايين عدة من البراميل يومياً — فإن زيادة أسعار النفط ستقفز بصورة لا قدرة لدولة مفلسة مثل تونس أن تتعهّد الحكومة فيها بدفعها.

• عبد اللطيف الفراتي هو كاتب وصحافي تونسي مخضرم، كان سابقاً رئيس تحرير صحيفة “الصباح” التونسية. يمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى