تَجديدُ البَيْعة

بقلم سجعان قزي*

حياءً، دَعَت الدولةُ اللبنانيّةُ أخيرًا المواطنينَ اللبنانيّين، بمن فيهم المجنَّسين، إلى الانتخاباتِ النيابيّةِ في 6 أيّـار (مايو) المقبل. كان بوِدِّها ألّا تُكبِّدَهم مَشقَّةَ التصويتِ، لكنَّ ذرائعَ تأجيلٍ آخَرَ نَـفَدَت لديها ونَفَقَت، فَمَشَتْها خُطىً كُتِبَت عليها. إذا كانت الدعوةُ إحترامًا متأخِّرًا لمبدأِ تداولِ السلطة، فالإنتخاباتُ ستؤدّي إلى تداولِ المناصبِ بين أهلِ السُلطةِ لا إلى تداولِ السُلطة. والتغييرُ الشكليُّ سيَـقتصِرُ على تبديلِ بعضِ الأسماءِ بسبب الوفاةِ، أو المرضِ، أو الشيخوخةِ، أو العَجزِ الماليّ، أو بلوغِ الأولادِ سِنَّ التَرشُّحِ، أو مَلَلِ الزعيمِ من نائبٍ ما فيَستبدِلُه بآخَرَ أكثرَ فُكاهةً وطواعيّة.
هكذا تَبرزُ خمسةُ إستنتاجاتٍ فوريّـةٍ: الأوّلُ، ما خَلا حصولِ تدهورٍ أمنيٍّ أو عسكريٍّ، الإنتخاباتُ واردةٌ. الثاني، التغييرُ لا يحتاجُ إلى قانونِ إنتخابٍ جديدٍ فقط، بل إلى إنتخابٍ مختلِف. الثالثُ، الإنتخاباتُ النيابيّةُ، وهي أسمى تَجلّياتِ الممارسةِ الديموقراطيّة، هي في لبنانَ عمليّةٌ مُضادّةٌ للديموقراطيّةِ. الرابعُ، إنتسابُ لبنانَ إلى الأنظمةِ الـمُغلَقة بات أصيلاً بعدَ تدرّجٍ إستغرَق نحوَ ثلاثينَ سنة. والخامس، أيُّ تغييرٍ في النظامِ لن يَشمُلَ الثوابتَ العائليّةَ والمناطقيّةَ والطائفيّة.
لكَثرةِ ما عَطّلت الطبقةُ السياسيّةُ الحاليّةُ الدستورَ ومَنعَت الانتخاباتِ الرئاسيّةَ ومدَّدَت للمجلسِ النيابيّ، صِرنا نَظنُّ أنَّ إحترامَ الإستحقاقِ الدستوريِّ بحدِّ ذاتِه هو فعلٌ ديموقراطيٌّ، وأنَّ إجراءَ الانتخاباتِ بحدِّ ذاتِه هو إنجازٌ تغييريٌّ، ونَسيْنا التمييزَ بين الآليّةِ والهدفيّة. قيمةُ الاستحقاقاتِ الدستوريّـةِ هي في كونِـها أداةَ تغييرِ الواقعِ من خِلال النظام؛ ذلك أنَّ الانتخاباتِ في الأنظمةِ الديموقراطـيّةِ هي البديلُ الـمُوازي للثوراتِ في الأنظمةِ الديكتاتوريّـة. في الحالةِ الأولى نَنتخِبُ لنغيّــرَ، وفي الحالةِ الأخرى نَـثور لنغيّــر. وهنا الإشكاليّة: عِوضَ أنْ تكونَ الانتخاباتُ النيابيّةُ فرصةً يُـحاسِبُ فيها المواطنُ السياسيّين على أعمالِـهم، تحوَّلت في لبنانَ مناسَبةً يَـمتَحِنُ فيها السياسيّون ولاءَ الناخبين لهم، يعني “تجديدَ البَــيْــعَة”!
لذلك، لا يَشعُرُ الناسُ بحماسَةٍ خاصّةٍ لهذه الانتخاباتِ، ولا يَعتبِرونَها حدثاً أو مُفترَقًا، بل إستحقاقًا عقيمًا يُشكِّلُ فيه المقاطِعون الصوتَ التفضيليَّ، والورقةُ البيضاءُ صوتَ الشعبِ العميق. إنَّ التغييرَ في لبنانَ، بالمفهومِ التقدّميِّ، ثمرةٌ تُزهِـرُ ولا تَـعقِدُ. فاللبنانيُّ كمواطنٍ يَـخضَعُ للطائفيّةِ، وكناخِبٍ يَـخضَعُ لمصالحِه وبيئتِه، ما أجهَضَ ويُجهِضُ جميعَ حركاتِ التغيير.
وحين نعتمدُ هذا التحليلَ مادّةً نَستنِدُ إليها لاتّخاذِ موقِفٍ من الاستحقاقِ النيابيّ، تُواجِهُنا الأسئلةُ التالـيّـة:
• بأيِّ عينٍ تدعو الدولةُ الناسَ إلى الانتخاباتِ النيابيّةِ وهي أمسَت “لادولة”؟ ما حَصَل هذه الأيّام لم يُسِئْ إلى العهدِ الرئاسيِّ فقط، بل كَشفَ أنَّ منسوبَ الاحقادِ في زمنِ ما يُسـمِّى “السلمَ الأهليّ” أرفعُ مـمّا كان في زمنِ الحربِ الأهليّةِ وغيرِ الأهليّة، وأنَّ “المعتدِلين الجُددَ إستعادوا فورًا تطرُّفَهم القديم، وأنَّ آباءَ الدستورِ الجديدِ ما زالوا أولادَ ميليشيات، وأنَّ ذِهنيّةَ الشارعِ أقوى من ذِهنيةِ الشرعيّة، وأنَّ خطوطَ التماسِ لا تزالُ قائمةً، وأن تسميةَ الشرقيّةِ والغربيّةِ لم تُـمْـحَ من النفوسِ والخريطة، وأنَّ لغةَ الحربِ لم تُبارِح الأفواه، وأن البلادَ غابةُ فؤوسٍ وسلاح، وأنّ المُعالَجاتِ تُجترَحُ على حسابِ القانونِ والقضاءِ والهيْبة، وأنَّ المؤسساتِ الأمنيّةَ والعسكريّةَ غائبةٌ عند “الحَزّة”. وبالتالي، هل مثلُ هذه الـــ”لادولةِ” تُـؤتَمنُ لكي نُودِعَها ثِقتَنا؟ إنَّ في الأمرِ استحالةً.
• على أيِّ أساسٍ، بل بأيِّ حقٍّ، تَتقدَّمُ القِوى السياسيّةُ من الشعبِ وتَـلتمِسُ صوتَه ما دامَت لم تَـحترمْ وعودَها السابقةَ طَوالَ فترةِ تمثيلِها إيّـاه (2009/2018) ـــ لئلّا نَرجِعَ أكثرَ إلى الوراء، ـــ ولم تُـحقِّقْ له إنجازاتٍ إنمائـيّـةً وإجتماعيّـةً ومعيشيّـةً؟ وإستنادًا إلى أيِّ برامجَ جديدةٍ تَـخوض هذه القِوى الانتخاباتِ النيابيّةَ كي يَتسنّى للناخبِ الاختيارَ بين لائحةٍ وأُخرى؟ إنَّ في الأمرِ وقاحةً.
• ما هو معيارُ تأليفِ اللوائحِ في الدوائرِ الانتخابيّـةِ، أهِــيَ المبادئُ أم الأموالُ؟ أهُـوَ الانتماءُ العائليُّ أم الحزبيُّ؟ أهُــوَ الخطُّ الوطنيُّ أم المصالحُ المرحليّة؟ وبأيِّ حَـقٍّ أخلاقيٍّ يَـجري تأليفُ لوائحَ بين مرشَّحين كان بعضُهم حتّى البارحةِ يَشْـتُم البعضَ الآخَر؟ هؤلاءَ ليسوا متحالِفين بل متواطِئون على الناس. إنَّ في الأمرِ استهزاءً.
• كيف يُطلَبُ من الناخبِ أنْ يُصوِّتَ للائحةٍ بكاملِها (دونَ تَشطيب)، فيما التحالفاتُ تقومُ على أساسٍ زبائنيٍّ ووصوليٍّ وإنتهازيٍّ بعيدًا عن المبادئِ والخِياراتِ الوطنيّةِ المشترَكة؟ لو كانت هذه اللوائحُ نَواةَ كُتلةٍ نيابيّةٍ لَـهَانَ الموضوعُ، لكنّها لقاءُ لحظةٍ: تُصْطادُ الأصواتُ، تُعلَنُ النتائجُ ويَتفرّقُ النوّاب. إنَّ في الأمرِ خِدْعةً.
• هل يـُحْرَزُ أنْ يَذهبَ المواطِنُ إلى قلمِ الاقتراعِ ليَنتخِبَ، ولا قيمةَ فعليةً لصوتِه طالما الدولةُ تُشرِّعُ وتُـحلِّلُ وتُـحرِّمُ وتُقرِّر من دونِ اعتبارٍ للشعب؟ لقد حَــوّلت الدولةُ الانتخاباتِ فِعلاً عبثيًّا والناسَ كَـوْمةً عدميّةً. تناسى المسؤولون أنَّ التهميشَ مثلُ الحِرمان، كِلاهُما يُفجِّر العنفَ. إنَّ في الأمرِ خطورةً.
• ما الجدوى من الخِيار بين هذا الفريقِ السياسيِّ وذاكَ ما دام جميعُ الأفرقاءِ سيشترِكون لاحقًا ـــ من دونٍ توافقٍ ـــ في “حكومةٍ توافقيّة” واحدةٍ بعيدًا من أصولِ الموالاةِ والمعارضة؟ وبالتالي، يُلغى صوتُ المواطنِ كفِعلِ اختيار، ويَتعطّلُ دورُ البرلُمان كمراقبِ السلطةِ التنفيذيّةِ، وتَنتقِلُ المعارضةُ من البرلُمان إلى الحكومةِ، ما يُشِلُّ مجلسَ الوزراءِ أيضًا. إنَها “الديموقراطيّةُ التعطيليّةُ” لا التوافقيّة. إنَّ في الأمرِ شَعْوذةً.
• ما قيمةُ صوتِ الشعبِ مع دخولِ أصحابِ الثرَواتِ الماليّةِ عالَمَ السياسةِ من بابِ فائضِ المالِ لا مِن بابِ فائضِ الوطنيّة. أصبحَت الانتخاباتُ خِيارَ الفقراءِ للأغنياء. إنَّ في الأمرِ رِقًّـا.
في ضوءِ ما تَقدّم تبدو الانتخاباتُ النيابيّةُ المقبِلة ـــ وهي أصلاً في طورِ الاحتِضار ـــ عمليّةً تجميليّةً لنظامٍ هَرِمٍ، تُعطي الشرعيّةَ لطبقةٍ سياسيّةٍ تَعمل خارجَ الشرعيّة، فهي تاليًا لزومُ ما لا يَلزَم.

• وزير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى