الصَدَع الصوفي – السَلَفي “يُسَلفِن” قطاع الأمن في ليبيا

الهجمات الأخيرة في ليبيا ضد أهداف صوفية لم تتم بدافع عقائدي فقط، وإنما أيضاً بسبب الإستياء الإجتماعي- الإقتصادي الذي بات يهدد الوضع المهترىء أصلاً في الجماهيرية السابقة.

السلفيون في ليبيا: هدفهم القضاء على الصوفيين في البلاد

بقلم فريديريك ويري وكاثرين بولوك*

في 29 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، هاجم مُتشدِّدون مسلّحون مقام محمد مهدي السنوسي في مدينة الكفرة في جنوب شرق ليبيا، وعبثوا بجثة هذا الزعيم الصوفي الشهير ووالد الملك إدريس، أول حاكم للبلاد بعد الإستقلال.
جاء هذا الحادث في أعقاب إعتداءات مُماثلة على التراث الصوفي الليبي. ففي 28 تشرين الثاني (نوفمبر)، وعشية ذكرى المولد النبوي، أضرم مهاجمون مجهولون النار في زاوية الشيخة راضية، وهو مسجد أثري صوفي في طرابلس يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر. وفي تشرين الأول (أكتوبر)، دُمِّرَ مسجد تاريخي آخر في العاصمة الليبية، وفي أيلول (سبتمبر) خُطِفَ ناشط صوفي بارز في خضم تقارير تتحدث عن العديد من عمليات الخطف والإعتقالات في طول البلاد وعرضها.
لقد سلّطت هذه الهجمات الأضواء على القوة المتنامية للسلفيين في البلاد، هذا عدا عن إبرازها مدى الفوضى المتواصلة وعجز — وأحياناً عدم إستعداد — السلطات الحكومية لحماية المقامات الصوفية. فعلى رغم أن العداوة التي يكّنها السلفيون للصوفيين تُوضَع في إطارٍ عقيدي أو عقائدي وفُقهي محض، إلا أن هناك غالباً دوافع سياسية وإجتماعية – إقتصادية أعمق. وتدل دراسة بعض الحالات في العالم الإسلامي على أن معاداة الصوفية تكون أحياناً تعبيراً عن توترات طبقية، أو هي تنبع من الإرتباط المُتصوَّر للصوفيين بأنظمة مُطاح بها، أو بقوى أجنبية.

الإرث القوي للصوفية الليبية

لعب الصوفيون في ليبيا دوراً بارزاً في التاريخ الحديث للبلاد، بوصفهم من بناة الدولة، ووطنيين، ومُعادين للإمبريالية والإستعمار. وهذا ما جسّدته سلالة السنوسي بقيادة إدريس السنوسي وشخصية شهيرة للغاية هي عمر المختار الذي كان معلّماً صوفياً، ثمّ تحوّل إلى ثائر وقاتل الإحتلال الإيطالي لمدة عقدين.
لكن، في بعض الأحيان كان الصوفيون أيضاً أكثر غموضاً وتعاوناً مع القوى الأجنبية المحتلة، سواء أكانوا العثمانيين أو الإيطاليين أو البريطانيين، ما جعلهم أكباش فداء سهلة لخصومهم. وحين أطاح معمر القذافي بالملك إدريس في العام 1969، ضرب على وتر هذا البعد، وصنّف الصوفيين (بخاصة منهم الطريقة السنوسية) بأنهم عملاء للإمبريالية والرجعية. وهذه كانت محاولة منه لإزالة تحدِ سياسي مثّلته بقايا السلالة السنوسية، بخاصة في شرق ليبيا. وفي العقدين التاليين من حكمه، أمر الديكتاتور بتدمير عدد من الأضرحة ومُصادَرة الوقفيات الصوفية، مُشعلاً بذلك مشاعر مناوئة للصوفية في المجتمع. وفي الهجيع الأخير من عهده، حدث تقارب قصير العمر مع الصوفية حين أشاد بها لأنها توفّر قوة موازنة لحركات الإسلام السياسي والمنظمات الجهادية التي إعتبرها أشدّ خطراً.
غداة ثورة 2011، إزدهرت الصوفية وإنتعشت لفترة قصيرة بعد أن تمتعت بحرية جديدة. لكنها تعرّضت أيضاً إلى هجمات فورية عبر البلاد على يد السلفيين الليبيين الذين أفلتوا من عقالهم. وفي حين أن ما يُسمّى بالسلفيين المُسالمين أو “الهادئين”، الذين يسخر منهم خصومهم بإطلاق تسمية “المدخليين” عليهم بسبب إرتباطهم برجل دين مقيم في السعودية يُدعى ربيع بن هادي المدخلي، والذين تجنبوا نظرياً العمل السياسي مُفضّلين عليه الأخلاق الإجتماعية، فإنهم تغيّروا في السنوات الأخيرة. فقد تحالفوا مع المعسكرات السياسية الليببة المُفتتة، والأهم أنهم سيطروا على القطاع الأمني من خلال الميليشيات التي تتحالف شكلياً مع السلطات الليبية المتنافسة في الغرب والشرق. وهنا حظي هؤلاء السلفيون ببعض التأييد والتهليل بسبب تصدّيهم للإتجار بالمخدرات، لكنهم أثاروا في الوقت نفسه القلق والتوتر بسبب قمعهم لنشاطات يعتبرونها لا- إسلامية، كالفن والموسيقى والإختلاط بين الجنسين. كما أنهم إستخدموا سردية مكافحة الجريمة والإرهاب لإستهداف منافسين إسلاميين، سواء أكانوا سلفيين جهاديين من تنظيم “الدولة الإسلامية” أو ناشطين سياسيين من جماعة “الإخوان المسلمين”. كما وفّرت لهم سلطتهم المُستجدّة الغطاء لشن الحملات على الصوفيين.
أوضح مثال على ذلك هي ميليشيا في طرابلس تُدعى قوة الردع الخاصة، التي لا تتكوّن كلياً من السلفيين لكنها بقيادة عبد الرؤوف كارة الذي يصف نفسه بأنه سلفي. وتُنحى اللائمة على هذه الميلشيا للهجمات على السلفيين في العاصمة، بيد أن كارة نفى لأحد كاتبي هذه المقالة في مقابلة في العام 2013 أنه أمر بتنفيذ هذه الهجمات، على الرغم من أنه إعترف بأن رجاله شاركوا فيها. ما هو أهم هنا أنه لا هو ولا قوات الشرطة الرسمية في العاصمة أبدوا إستعداداً أو قدرة على حماية المواقع الصوفية. وفي شرق ليبيا، ثمة ديناميكية مماثلة قيد العمل، لكن هذه المرة عبر موجة إعتداءات على الصوفيين من قبل ميليشيات سلفية متحالفة مع الإدارة العسكرية بقيادة المشير خليفة حفتر.
كل هذا يعكس ما يُمكن وصفه بشكل أفضل بأنه “سلفنة” (من سلفية) قطاع الأمن الليبي، حيث تُهيمن قواعد العمل السلفية على مسألة الأمن. والحصيلة كانت تفاقم مناخات الخوف والإنكشاف على المخاطر، مشوبة بالتحدي في صفوف الصوفيين. وقد كشفت زيارات للصوفيين في كانون الأول (ديسمبر) 2017 في طرابلس ومصراته وسرت عن نزعة التحدي هذه بأبهى صورها، حيث يقوم الصوفيون بالتصدي لسيطرة السلفيين على الفضاء العام من خلال المواكب وعروض “الحضرة” الصاخبة، وهي إحتفالات تتضمن التلاوات والموسيقى في الساحات العامة.
ومع ذلك، لايزال السؤال المطروح: ما الدوافع وراء الإعتداءات على الصوفيين؟
من جهة، هناك بالفعل صدع عقيدي مُتجذّر بين السلفيين والصوفيين حول الإيمان والشعائر وقواعد السلوك. ويعتبر السلفيون الصوفية بدعة هرطوقية وإساءة إلى المبدأ المقدس الخاص بوحدانية الله، وفق مفهومهم للإسلام وما يعتقدون أنه سنّة النبي محمد وصحابته. ويسخر السلفيون من ممارسات الصوفيين في مجالات الغناء الإبتهالي، وقرع الطبول، والتوسّل للأولياء الأموات، ويعتبرون كل ذلك شركاً. كما أنهم يدينون تنظيم الصوفية في طرق ويعتبرون ذلك تقسيماً للأمة الإسلامية.
في مقابلة معه أُجريت في كانون الأول (ديسمبر) 2017 قدّم أحد الأعضاء السلفيين في “الكتيبة 604 مشاة”، وهي الميليشيا التي تحوّلت إلى قوّات شرطة في سرت، نقداً سلفياً نموذجياً إلى حد ما للصوفية. قال: “إنهم يمنحون مشايخهم سلطة الله، ويمارسون السحر الأسود”. لكنه أشار أيضاً إلى بُعدٍ سياسي للتنافس، مُدعيّاً أنه لطالما نُظر إلى الصوفيين بإعتبارهم “الطابور الخامس” للقذافي، ومُشيراً في الوقت نفسه بسخرية إلى أن السلفيين “الهادئين” كانوا أنفسهم حلفاء الديكتاتور الراحل، حيث كان الكثيرون قابعين على الهامش في ثورة 2011 أو بقوا موالين للنظام. وبالتالي، في حين أن هناك إختلافات إيديولوجية بالفعل، فلا تزال السياسة والعلاقة مع مسألة السلطة المركزية تلعب دوراً مهماً. ويُمكن إعتبار الهجمات التي طالت الصوفيين، جزءاً من إعادة تشكيل أوسع نطاقاً للمجال السلفي الليبي، حيث تُستخدم الهجمات على “الآخر” الديني لتحديد الهوية وجذب الأتباع.

صَدَع إجتماعي وإقتصادي

إزداد السخط الإجتماعي والإقتصادي المُتبادَل بين الصوفيين والسلفيين، ربما جزئياً بسبب الطريقة التي كان يتعامل بها الحكام الليبيون مع الصوفيين إما كأكباش محرقة أو كرموز. وقد كسبت السلفية زخماً في أوساط الجيل الأول من المهاجرين الريفيين إلى المناطق الحضرية (شهدت ليبيا إنتقالاً سريعاً نحو التحضُّر في العقود الأولى من حكم القذافي)، الذين يفتقرون إلى إمكانية الوصول إلى شبكات المحسوبية التقليدية. وفي المقابل، كانت الصوفية في كثير من الأحيان قصراً على الأسر الحضرية وشبه الحضرية الراسخة التي تملك وقفيات ثرية.
تُجسّد إنتقادات الصوفيين للمذهب السلفي هذا الشرخ الطبقي والجيلي: فغالباً ما إتّهم الصوفيون السلفيين بأنهم يفتقرون إلى التعليم الإسلامي الرسمي وبأنهم من الدخلاء الجدد على الإيمان. وكما قال أحد الشيوخ الصوفيين في طرابلس، في مقابلة أُجريت معه في كانون الأول (ديسمبر) 2017، في إشارة إلى مجتمع ساحلي مجاور من السلفيين، “كنّا نعلم أن هؤلاء الرجال مجرد صيادين بسطاء يحتسون الكحول، وفجأةً باتوا مدخليين”.
في نهاية المطاف، الهجمات السلفية على المواقع الصوفية لا تعبّر عن إشتباك إيديولوجي وحسب، بل هي أيضاً أحد أعراض التوترات المجتمعية الطويلة الأمد والناشئة بسبب الفوارق الإقتصادية في ليبيا، والتي تفاقمت بسبب الصراع السياسي المتواصل، فضلاً عن الأزمة النقدية في البلاد. وبالتالي، فإن حلّ معاداة الصوفية لا يتعلّق أساساً بمصالحة عقيدتين، أو إضفاء نوع من الإعتدال على السلفية، أو مدّ جسور الحوار بين الطائفتين؛ إذ على الرغم من أن هذه المبادرات قد تكون قيّمة، إلا أن الأمر سيتطلّب معالجة أوجه العجز الأوسع التي تعانيه ليبيا منذ وقت طويل، وتتمثّل في إصلاح الاقتصاد، وتطوير مؤسسات شاملة، ولا سيما إرساء سيادة القانون. وفي حين أن الضرورة الأخيرة لطالما كانت مهمة، إلا أنها باتت الآن تتمتّع بأهمية أكبر، نظراً إلى هيمنة السلفيين على قطاع الأمن، والهجمات على الصوفيين.

• فريديريك ويري باحث أول في برنامج الشرق الأوسط في مركز كارنيغي، تركّز أبحاثه على الإصلاح السياسي والقضايا الأمنية في دول الخليج وليبيا، والسياسة الأميركية في الشرق الأوسط عموماً. وكاثرين بولوك هي المديرة التنفيذية للتربية والإعلام والتوعية المجتمعية للمجتمع الإسلامي في أميركا الشمالية – كندا. كما أنها تعمل محاضرة بدوام جزئي في قسم العلوم السياسية في جامعة تورنتو.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى