تشابُك السياسات الاقتصادية والسياسية في الجزائر يُعكّر أجواء البلاد

تقدّم سياسة “المال بالهليكوبتر” والإعتماد على صك العملة التي ينتهجها رئيس الوزراء الجزائري أحمد أويحيى، حلاً قصير المدى ليس فقط للمشاكل الاقتصادية التي تتخبّط فيها الجزائر، إنما أيضاً لتوازنها السياسي الهش.

رئيس الوزراء السابق عبد المجيد تبون: حاول فأفشلوه

بقلم ريكاردو فابياني*

أثار إعلان السياسات الأساسي الأول الصادر عن رئيس الوزراء الجزائري أحمد أويحيى في 17 أيلول )سبتمبر( الماضي، واحداً من السجالات الإقتصادية الأوسع نطاقاً التي شهدتها الجزائر في الأعوام القليلة الماضية. فقراره بالتعويل على المصرف المركزي لتمويل العجز المالي أغضب معظم الخبراء الإقتصاديين الذين رأوا في هذا الإجراء عودةً إلى الماضي. وقد برّر رئيس الوزراء خطوته هذه بالقول بأنه إذا لم يتم صكّ العملة وضخّها في صناديق الحكومة، فسوف تعاني الدولة من نفاد السيولة بحلول تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ولن تتمكّن بالتالي من دفع رواتب موظّفي القطاع العام. كانت الرسالة الضمنية وراء هذا الكلام أن هذه الآلية لتسييل الديون هي الأداة الوحيدة المتوافرة للسلطات من أجل تجنّب موجة من الإضطرابات السياسية والإجتماعية التي من شأنها أن تتسّبب بزعزعة الإستقرار.
مما لا شك فيه أن ضخّ سيولة إضافية في إقتصاد مُنغلق ومُعتمِد على السلع الأساسية بوجود قطاع غير هيدروكربوني صغير جداً، والقليل من المنافسة، وفي ظل التشدد في القيود على الواردات، سيؤدّي في المدى المنظور إلى إرتفاع سريع في التضخم، وتراجع في سعر الصرف. على النقيض من مزاعم أويحيى بأنه يمكن تشبيه هذا الإجراء بسياسات التيسير الكمّي في الولايات المتحدة وأوروبا، فإن هذه السيولة الإضافية لن تُفضي سوى إلى منح إندفاعة جزئية للنشاط في قطاع الأعمال، لا بل إنها ستتسبب بحماوة إقتصادية مرتفعة جداً. غير أن التضخم وإنخفاض قيمة العملة سوف يتوقفان على كمية السيولة التي سيضخّها المصرف المركزي: لقد إمتنعت الحكومة حتى الآن عن تعيين هدف أو سقف محدد لسياسة “المال بالهليكوبتر”، فساد التعتيم في ما يتعلق بالتأثير الفعلي لهذه السياسة.
سوف يتيح تسييل الديون للجزائر تمويل عجزها تلقائياً، والكفّ عن القلق بشأن إقتراض الأموال في السنوات القليلة المقبلة. وتضع هذه السياسة حداً مؤقتاً للسجال شبه المتواصل عن التعديل الاقتصادي في البلاد، حيث تخبّطت السلطات من أجل وضع سياسةٍ لمعالجة التراجع في الحسابات المالية والخارجية خلال الأعوام القليلة الماضية. منذ العام 2014، عندما سجّلت الجزائر لأول مرة عجوزات كبيرة في الحسابات المالية والجارية بسبب الهبوط الحاد في أسعار النفط، سعت الحكومة جاهدة لإيجاد مصادر تمويل من أجل سدّ هذه العجوزات – لا سيما وأن النظام رفض بإستمرار الحصول على الأموال من السوق الدولية أو اللجوء إلى صندوق النقد الدولي.
هذا التعتيم على الديون الخارجية مثير للحيرة والإرباك نظراً إلى السياسات الشديدة اإاختلاف التي إنتهجها أخيراً منتجون آخرون للنفط في المنطقة. ففي حين أصدرت السعودية وقطر سندات سيادية لتنويع مصادرهما التمويلية وتمويل برامجهما لإعادة هيكلة الاقتصاد، فقد إختارت الجزائر في البداية اللجوء إلى صندوقها شبه السيادي (صندوق ضبط الإيرادات) من أجل إرجاء أي إجراءات تقشّفية حسّاسة سياسياً. وبعدما إستُنفِدت الموارد المخصّصة لهذا الصندوق إستنفاداً شبه تام، تحوّلت السلطات نحو المدّخرات الداخلية لسدّ العجز المالي.
يُشار في هذا الصدد إلى أن جزءاً كبيراً من المدّخرات الخاصة يُحفَظ خارج القطاع المصرفي النظامي، نظراً إلى تدنّي مستويات الإختراق المالي، وحجم القطاع غير النظامي. على الرغم من المحاولات المتعددة التي بُذِلَت لتحفيز الناس على الإستثمار في السندات الحكومية التي تستخدمها الدولة لتمويل عجزها، إلّا أن هذه السيولة ظلّت خارج متناول الحكومة. لطالما تجنّب المدّخرون الجزائريون الإستثمار في السندات الحكومية وسواها من البرامج، ما يُسلّط الضوء على التدنّي الشديد في مستوى ثقة المواطنين بمؤسسات البلاد. نتيجةً لذلك، تحمّل قطاع الأعمال النظامي (لا سيما المصارف المملوكة من الدولة والشركات التابعة لجهات سياسية) الوطأة الأكبر للإقتراض الحكومي، ما أدّى بدوره إلى إنخفاض السيولة في هذا القطاع وزيادة كلفة الإئتمان للقطاعات الخاصة، الأمر الذي تسبّب فعلياً بحرمانها من القروض.
غنيٌّ عن القول أن هذه الاستراتيجية مارست تأثيراً سلبياً في نشاط الأعمال. فإلى جانب النقص المُتفاقِم في السيولة الذي أفضى إلى زيادة الأكلاف الإئتمانية على كاهل الأعمال، فقد أدّى لجوء الحكومة إلى خفض الإنفاق الرأسمالي إلى معاناة الشركات الجزائرية من التأخير في السداد، ومن مشاكل في التدفق المالي. يعتمد الجزء الأكبر من الإقتصاد غير الهيدروكربوني الصغير الحجم في البلاد على العقود الحكومية والإنفاق الحكومي في شكل عام. مما لا شك فيه أن الخفوضات في الإنفاق الإستثماري مقرونةً بصعوبة الوصول إلى الإئتمان دفعت بعدد كبير من الشركات إلى حافة الإفلاس خلال الأعوام القليلة الماضية، كما حصل مثلاً في قطاع البناء والإنشاءات، حيث تواجه ستون في المئة من الشركات، بحسب التقارير، خطر الإفلاس.
على ضوء هذا السياق الذي يزداد صعوبة يُمكن أن تُفهَم التجربة الفاشلة التي خاضها رئيس الوزراء السابق عبد المجيد تبون في إطار محاولته وضع سياسة إقتصادية. فقد حاول تبون، معالجة الأزمة بطريقتَين إثنتين: التشدّد في القيود والحصص المفروضة على الواردات للحدّ من العجز في الحساب المالي، وإستهداف الأوليغارشيين الجزائريين وتدخلهم السياسي المزعوم من أجل الحصول على الدعم لسياسات التقشف الحكومية. في حين أنه ليس واضحاً ما هي الإستراتيجية التي كان تبون ينوي إتباعها في المدى الطويل (وعلى الأرجح أنه لم تكن لديه أية استراتيجية)، فقد عكسَ جدول أعماله في السياسات إعتراضاً واضحاً على منظومة التهريب والمحسوبيات الفوضوية التي إنطبع بها التحرير الاقتصادي للبلاد منذ ثمانينات القرن الفائت. فهو إعتبر أنه يجب أن يدفع المورّدون وطبقة الأعمال ثمن التصحيح والتعديل الإقتصادي المؤلم في البلاد.
سرعان ما إرتدّت هذه الإجراءات بنتائج عكسية، فإستراتيجيته لم تنجح سوى في توحيد إئتلاف نافذ من مجموعات المصالح – يتألف من “لوبي” الإستيراد، والأوليغارشيين، وشرائح واسعة من النظام – ضد سياساته. حاول تبون ليّ ذراع البورجوازية الخاصة النظامية وغير النظامية في الجزائر لدفعها إلى الرضوخ، وتنظيم أنشطتها، وضخ شرعية جديدة في مؤسسات الدولة. لكن في نهاية المطاف، كان هو، ممثّل بورجوازية الدولة، من طُرِد من منصبه وإستُبدِل بأويحيى الذي يتمتّع بالحنكة السياسية.
بناءً على ما تقدّم، فإن سياسة “المال بالهليكوبتر” التي ينتهجها أويحيى هي مجرد حلّ قصير المدى ليس فقط للمشاكل الإقتصادية التي تتخبّط فيها الجزائر، إنما أيضاً لتوازنها السياسي الهش. إن تسييل الديون المباشر يتيح للحكومة تسديد الديون المتأخّرة المستحقّة عليها لطبقة الأعمال، والحدّ من إعتمادها على الإئتمان المحلي، وزيادة الرأسمال والإنفاق بما يعود بالفائدة على الشركات والأسر الجزائرية. وسوف يؤمّن ذلك بعض المتنفّس لقطاع الأعمال فيما يؤدّي إلى إرجاء أي خفوضات مؤلمة سواءً في رواتب موظفي القطاع العام، والتي من شأنها أن تقوّض الدعم لموظّفي الخدمة المدنية، وفي رواتب المعلمين، أو في الإنفاق على الرعاية الاجتماعية، وفي هذه الحالة، من شأن الخفوضات أن تثير غضب الرأي العام. ويتصرّف أويحيى بحذر أكبر في موضوع الواردات، محاولاً التوفيق بين مصالح “لوبي” الإستيراد الذي يعمل في الظل إنما يتمتع بالنفوذ، وبين الحاجة إلى خفض مشتريات السلع الأجنبية. وقد عمد رئيس الوزراء، حتى تاريخه، إلى إلغاء القيود التي فرضها تبون على التجارة، لكنه أعلن أيضاً في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري أنه ينوي تطبيق شروط أشد صرامة على تمويل الواردات من طريق المصارف المحلية.
غير أن النقطة الأهم هي أن الهدف من هذا المسار الجديد هو تفادي التداخل بين الإنتقال السياسي والإنتقال الإقتصادي في البلاد. في هذا السباق مع الوقت، تحاول السلطات ضمان الدعم لها من الشرائح الأساسية الموالية للنظام – موظفو القطاع العام، وعمّال الاقتصاد النظامي، والأوليغارشيون، والمستوردون – على مشارف إنتقال الرئاسة الذي لا يزال محاطاً بقدر كبير من الغموض والإلتباس. سواءً ترشّح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة في الانتخابات الرئاسية في العام 2019 أو إستُبدِل برئيس يجري إختياره بتأنٍّ، سوف تسعى السلطات، في الإنتظار، جاهدةً إلى تجنّب مواجهة التداعيات السياسية والاجتماعية التي يُمكن أن تترتب عن إعتماد إجراءات تقشفية.

• ريكاردو فابياني محلل رفيع لشؤون شمال أفريقيا في مجموعة أوراسيا. لمتابعته عبر تويتر: ricfabiani@

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى