كيف ينظر مواطنو الخليج إلى إيران؟

قيل الكثير عن العداء المستفحل بين دول الخليج العربي من جهة وإيران من جهة أخرى، وكُتِب أكثر عن طموحات إيران الإقليمية وخطرها على أمن دول مجلس التعاون في الخليج، ويبدو أن أستاذ العلوم السياسية الأميركي جوستين جينغلر المتخصص في شؤون الخليج العربي وجد من خلال إستطلاع عام للراي أجراه مع مجموعة من أساتذة جامعة ميتشيغان في خمس من دول مجلس التعاون الخليجي (ما عدا دولة الإمارات)، بأن للمواطنين الخليجيين رأياً مخالفاً لحكوماتهم.

تنظيم “داعش”: الخطر الأكبر على الخليج في رأي موطني 5 دول خليجية

بقلم جوستين جينغلر*

في أيار (مايو) الفائت، أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في مقابلة إستمرت ساعة مع التلفزيون الرسمي، أن الحوار مع إيران “مستحيل”. وحذّر بأنه لا يُمكن الوثوق بالجمهورية الشيعية، لأن سياستها الخارجية تهدف إلى تحويل العالم الإسلامي والسيطرة عليه بأسره. إن السرد الناري الذي صدر عن الأمير، الذي حطم الآمال في أن يتمكن البلدان المتنافسان جيوسياسياً من التوصل إلى تسوية في مواجهاتهما في سوريا واليمن وأماكن أخرى، ليس بطبيعة الحال مفاجئاً. وبإستثناء سلطنة عُمان، وبدرجة أقل الكويت وقطر، لطالما إتهمت دول الخليج العربي طهران بالتلاعب والتدخل وتسليح وإثارة الإضطرابات بين السكان الشيعة العرب داخل وخارج مناطق النزاع. ونتيجة لذلك، فإن غالبية حكومات الخليج تعتبر علناً إيران أهم تهديد للأمن القومي.
لكن هل يتفق المواطنون الخليجيون مع مثل هذا الرأي؟ يبدو الأمر أقل وضوحاً. لقد درس الخبراء والباحثون على نطاق واسع تصوّرات النخبة بالنسبة إلى التهديد في منطقتي الشرق الأوسط والخليج، ومع ذلك لا يُعرَف إلا القليل جداً عن كيفية تصوّر العرب العاديين لإيران وعن مدى عكس آرائهم للروايات الداخلية والخارجية التي توقعتها حكوماتهم. وتشير بيانات إستطلاع الرأي العام، التي تم جمعها في منطقة الخليج بعد “الربيع العربي” في 2011، إلى أن معظم العرب يملكون آراء سلبية على نطاق واسع ضد إيران عبر عدد من الأبعاد الثقافية والسياسية، وأن هذه الآراء تعتمد بشكل حاسم على هوية الأفراد الطائفية، ويحظى الشيعة عموماً بوجهات نظر أكثر إيجابية بالنسبة إلى إيران. لكن النفور من، أو حتى كره، إيران وسياساتها تختلف عن الخوف من البلاد كمعتدي سياسي وعسكري مفترض. وعلاوة على ذلك، فإن إيران وبرنامجها النووي المزعوم اليوم هما واحد فقط من العديد من تهديدات الدول المتنافسة والمنظمات المتطرفة غير الحكومية للأمن القومي الخليجي: وهذا يتجلّى في صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” وغيره من المنظمات الإرهابية التي يسيطر عليها السنّة؛ والركود الاقتصادي بسبب إنخفاض أسعار النفط؛ ومن وجهة نظر البعض، إستمرار التدخل الأجنبي من قبل الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى.
ولمعالجة هذه الفجوة في المعرفة، أجريتُ، جنباً إلى جنب مع زملائي في جامعة ميتشيغان، مسحاً أصلياً في خمسٍ من دول مجلس التعاون الخليجي الست: البحرين والكويت وسلطنة عُمان وقطر والمملكة العربية السعودية. (رفضت الإمارات العربية المتحدة المشاركة في الدراسة). وفي الفترة ما بين العامين 2016 و2017، أجرينا إستطلاعات وجهاً لوجه مع أكثر من 4000 مواطن عربي خليجي، وقابلنا عيِّنات كبيرة ومُمثِّلة وطنياً للمواطنين البالغين من العمر 18 عاماً وما فوق في كل بلد. وقد طُلِب من المُجيبين تحديد “التحدي الأكبر لأمن وإستقرار دول الخليج” من بين الخيارات التالية: “إنتشار الجماعات الإرهابية مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” وتنظيم “القاعدة”؛ و”البرنامج النووي الإيراني”؛ و”المشاكل الإقتصادية بسبب إنخفاض أسعار النفط”؛ و”التدخل من الدول الغربية”. (تم ترتيب الخيارات الأربعة عشوائياً لتجنّب الإنحياز في النتائج). كما سألت الدراسة المُستَطلَعين عن توجهاتهم السياسية العامة ومواقفهم تجاه دول مجلس التعاون الخليجي كمؤسسة.
وتكشف نتائج الإستقصاء عن نتائج مهمة ومُثيرة للدهشة. أولاً، على الرغم من أوجه التشابه الكثيرة بين دول الخليج العربي، فإن مواطنيها لا يختلفون فقط في توجّهاتهم تجاه التحديات الأمنية الفردية، بل إنهم يُبدون أيضاً إختلافات كبيرة عبر الدول في الشعور العام بالأمن مقابل إنعدام الأمن. ففي سلطنة عُمان، على سبيل المثال، قال ما يقرب من نصف جميع الذين شملهم الإستطلاع – 46 في المئة – أن ليس هناك أي بلد يشكّل تحدّياً لإستقرار البلاد وأمنها، مقارنة مع 22 في المئة من المواطنين في قطر و2 في المئة فقط من الكويتيين.
ثانياً، والأهم، هي تصورات مواطني الخليج بالنسبة إلى التهديد الذي يشكّله البرنامج النووي الإيراني. وعندما يتم توسيع سؤال نطاق الأمن الخارجي ليشمل التهديدات غير التقليدية من الإرهاب عبر الوطني، والتدخل الغربي، والأزمة الاقتصادية، فإن إيران كلها تختفي ولا تظهر في الصورة. وبإستثناء المواطنين البحرينيين، فإن الغالبية الساحقة من المجيبين في كل بلد حدّدوا إنتشار المنظمات الإرهابية مثل “داعش” و”القاعدة” كأكبر تحدٍّ أمني للخليج، حيث تراوحت نسبتهم بين 53٪ من المواطنين في عُمان إلى 68٪ في الكويت (التي كانت قبل أشهر عدة فقط من المسح ضحية تفجير إنتحاري في مسجد شيعي). وجاء برنامج إيران النووي في المرتبة الثانية فى قطر والكويت حيث إعتبر 23 فى المئة و 21 فى المئة من المستجيبين، على التوالي، أنه يشكل تهديداً كبيراً. وفي سلطنة عُمان، لم يكن هذا التهديد سوى الثالث من حيث التهديدات، حيث بلغت النسبة 15 في المئة، وجاء في مرتبة وراء القضايا الاقتصادية الناجمة من تحطم أسعار النفط. وحتى في السعودية، فقد إعتُبِرت المخاوف بشأن إيران ثانوية إذا ما قورنت بالإرهاب، حيث يقول 25٪ فقط من السعوديين إن جيرانهم الشيعة يشكلون أكبر تهديد للمنطقة.

أخطار الدول والمنظمات المتطرفة غير الحكومية كما يتصورها المواطنون الخليجيون )2016 – 2017(

في مملكة البحرين الصغيرة ذات الغالبية الشيعية، حيث تصل المخاوف الرسمية من التهديد الوجودي من إيران إلى أقصى قدر من الهستيريا (ويرجع ذلك جزئياً إلى الإنتفاضة التي يقودها الشيعة في البلاد منذ العام 2011)، فإن مجرد واحد من كل 20 مواطناً يعتبر البرنامج النووي الإيراني أكبر تهديد لأمن وإستقرار الخليج. وبدلاً من ذلك، فإن الشاغل الأمني الأكثر إنتشاراً بين البحرينيين هو “التدخل” من قبل الغرب – الذي يعني الولايات المتحدة – في شؤون مجلس التعاون الخليجي. ويرى أنصار المعارضة الشيعية أن أميركا تمثل عاملاً أساسياً في قمع الدولة بسبب دعمها الديبلوماسي ومبيعات الأسلحة للحكومة البحرينية. وفي الوقت نفسه، فإن العديد من الموالين السنّة مقتنعون بأن واشنطن شكّلت تحالفاً ثنائياً مع إيران ضد البحرين وغيرها من البلدان العربية السنّية. في المقابل لم يتم تحديد التدخل الغربي على أنه مشكلة أمنية كبرى في الخليج في الكويت وعُمان وقطر والمملكة العربية السعودية.
وهكذا تكشف بيانات الإستطلاع عن التنافر وعدم التجانس بين الآراء السلبية الواسعة الإنتشار ضد إيران في الخليج وتحديد المنظمات المتطرفة السلفية كأعلى تهديد أمني، لأن هذه الجماعات هي التي تدافع عن السنّة ضد إيران، من بين أمور أخرى. إن التناقض يسلط الضوء على مجموعة معقدة من الهويات والولاءات التي تُجبِر المسلمين العاديين في العالم العربي على الإبحار والقيادة في وقت غير مؤكد للغاية، وغالباً مع خط رفيع يميّز الحامي من التهديد.
ومن الواضح أن النتائج تشير أيضاً إلى أن المواطنين الخليجيين لم يقبلوا السرد السياسي الذي يخدم نفسه، والذي تروِّج له حكومات الخليج منذ الإنتفاضات العربية في العام 2011، بأن إيران هي المصدر الرئيسي لعللها المحلية. في الواقع، منذ ذلك الحين، كان إتهام التدخل الإيراني في شؤون مجلس التعاون الخليجي بمثابة الصوت الرئيسي للسياسة في المنطقة. وبطبيعة الحال، فإن أساس هذه التهمة هي رسالة سارة: إن الحركات الإحتجاجية التي ظهرت – والتي قُمعت – في البحرين والمملكة العربية السعودية وأماكن أخرى، لم تكن تعبئة عضوية للرجال والنساء بدافع من المظالم والمطالب المشروعة، بل كانت جراء مؤامرات من قبل مواطنين يعملون عن علم أو خُدعوا من أجل المصالح الأجنبية. ويبدو أنه في حين أن الخطاب الحكومي يركّز على القوى الخفية أو غير الملموسة إلى حد كبير من التوسع الإيراني والتمكين الشيعي، فإن المواطنين العاديين يبدون أكثر إهتماماً بالجوانب الملموسة في حياتهم اليومية، بما فيها في بعض البلدان التهديد الحقيقي للعنف الإرهابي، وإنكماش شبكة الأمان الاجتماعي، ووجود القوات العسكرية الغربية.
وقد طبقت حكومات الخليج منطقاً مشابها للعوائق الإقتصادية التي تؤثّر الآن في مجتمعاتها نتيجة لتحطم أسعار النفط في العام 2014، الذي أشار إليه مشاركون في الإستقصاء من الدولتين الأكثر فقراً في مجلس التعاون الخليجي، وهما البحرين وعمان، على أنه يشكل أكبر تحدٍّ للإستقرار الإقليمي أكثر من البرنامج النووي الإيراني. وإتهمت حكومات الخليج إيران بخفض الاسعار بشكل أكبر من خلال رفضها خفض إنتاجها. والعجز في موازنات دول مجلس التعاون الخليجي – الذي أدى إلى تخفيضات في مزايا الرعاية والخدمات الإجتماعية للمواطنين – أُعيد سببه إلى ضرورة زيادة الإنفاق الشرطي والعسكري للرد على التهديد الإيراني، كما هو الحال في سوريا واليمن. والنتيجة الشائعة هي أن المشاكل التي تواجه دول الخليج اليوم ليست في المقام الأول من صنعها (وُلدت من أجندات الإصلاح المتوقفة، وسوء الإدارة الاقتصادية، أو بعض الأسباب الداخلية الأخرى)، ولكن من العقبات الخارجية التي أقامها الخصم الخبيث.
وبالفعل، في المقابلة التلفزيونية عينها التي استمرت ساعة وإستبعد فيها ولي العهد السعودي إجراء مفاوضات مع إيران لحل النزاعات الإقليمية، قام أيضاً بدفاع قوي عن برنامجه الإصلاحي الاقتصادي المعروف بإسم “رؤية 2030″، وهو برنامج كاسح على مدى 15 عاماً لتخفيض الإنفاق الحكومي، وتنويع الاقتصاد، وتعزيز روح المبادرة والإعتماد على الذات بين المواطنين، وجمع الأموال من طريق خصخصة أصول الدولة ذات القيمة الثمينة بما في ذلك شركة النفط الوطنية “أرامكو” السعودية. وقبل أسبوع واحد فقط على ذلك، أعادت الدولة علاوات مالية للعاملين الحكوميين والعسكريين تم تخفيضها فى اطار الجولة الاولى من إجراءات التقشف. وإستمرت التخفيضات التي لم تحظَ بشعبية بعد سبعة أشهر فقط من قيام الحكومة بتغيير مسارها، الذي فسره بعض المراقبين الخارجيين على أنه إستسلام للضغط العام. وبالتالي، كان سرد بن سلمان عن الإرتباط بين المخاطر الاقتصادية والأمنية في المملكة العربية السعودية كبيراً. وهو يعكس طمساً مفاهيمياً أكبر لمجموعتين من التحديات: الفكرة القائلة بأن التهديد من إيران يستلزم استجابة عسكرية قوية ومكلفة، وكذلك الوحدة الوطنية في مواجهة الإصلاحات الاقتصادية المؤلمة ولكنها ضرورية.
ومن المقبول عموماً بأن النخب الحاكمة يمكنها أن تستفيد من الشعور العام بإنعدام الأمن لحشد التأييد للسياسات التي لا تحظى بشعبية أو تحويل الإنتباه بعيداً من فشل الحكم، وفي عملنا السابق، وجدنا أدلة تجريبية على ذلك في السياق الخليجي. ومع ذلك، يتضح من نتائج المسح الذي أجريناه أخيراً أن الحكومات والمواطنين العرب في الخليج يميلون إلى أن يأخذوا في الاعتبار أشياء مختلفة جداً عندما يفكرون في تهديدات الأمن والإستقرار الإقليميين. وعلى الرغم من أن الحكام يتابعون إدعاءاتهم بالنسبة إلى التهديد الإيراني و”الإرهاب” من المعارضين السياسيين مثل الناشطين الشيعة أو جماعة “الإخوان المسلمين”، فإن معظم المواطنين يشعرون بالقلق إزاء الجهات الفاعلة التي ترتبط إرتباطاً وثيقاً بحكومات الخليج، مثل الدول الغربية التي ترعاها عسكرياً، والجماعات المتطرفة التي تتلقى دعماً إيديولوجياً و (مزعوماً) من بعضٍ منها. حتى الآن، يبدو أن هذا الإنفصال كان له تأثير سياسي ضئيل، حيث أن الفوضى في معظم أنحاء العالم العربي التي أعقبت ثورة 2011 قد غرست في مواطني الخليج نفوراً قوياً من عدم الإستقرار. أما إذا تدهور الأمن، أو ساءت الظروف الاقتصادية بشكل خاص، فإن المرء يمكن أن يتوقع صعوبة متزايدة لكي تختبىء أنظمة الخليج وراء البعبع الإيراني.
ومن المؤكد أن قادة دول مجلس التعاون الخليجي سيواصلون التأكيد على مخاوفهم من التدخل الإيراني في الشؤون المحلية ويدعون الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إتخاذ خط أكثر صرامة ضد طهران وربما يزيد من إحتمال المواجهة العسكرية المباشرة أو إنسحاب الولايات المتحدة من الإتفاق النووي المثير للجدل لعام 2015 الذي وقعته ايران والولايات المتحدة والقوى الاوروبية. ولهضم هذه المخاوف، فإن المسؤولين الأميركيين يصنعون جيداً لو أنهم يأخذون في الإعتبار آراء المواطنين العاديين في الخليج، الذين يروا إيران في نهاية المطاف قلقاً ثانوياً إذا قيست بتهديد السلفية الجهادية، وفي بعض الدول، بالركود الإقتصادي وتدخل واشنطن في المنطقة. وعند المقارنة مع القضايا الثلاث الأخيرة، وهي مشاكل هيكلية وعابرة للحدود تؤثر في جميع السكان العرب، يتساءل المرء عما إذا كانت إعادة طموحات قوة إقليمية واحدة هي أكثر المهام إلحاحاً بالنسبة إلى الخليج.

• جوستن جينغلر هو أستاذ باحث مساعد ورئيس قسم السياسات في معهد بحوث المسح الاجتماعي والاقتصادي في جامعة قطر. وقد أجرى المسح معهد البحوث الإجتماعية والإقتصادية في جامعة قطر. ولتنفيذه تم الحصول على منحة من صندوق قطر الوطني للبحوث، وهو عضو في مؤسسة قطر. علماً أن البيانات الواردة هنا يتحمل مسؤوليتها المؤلف وحده.
• هذا التقرير كُتب بالإنكليزية وعربه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى