تونس: المستقبل الضائع!

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

في تقديري، لا أحدٌ يتمنى أن يكون اليوم في منصب وزير المالية في تونس، بل في أي منصب وزير في الحكومة التونسية، وذلك بسبب ثقل المسؤولية التي تفرضها عليه طبيعة الظرف حيث لا يُمكن أن يشعر بالراحة إن كان واعياً بالتحديات، ولم يكن همّه إلّا نيل المنصب الوزاري.
ووزير المالية الجديد بالذات، رضا شلغوم، يواجه موقفاً لا يُحسَد عليه. من جهة يجد نفسه أمام معادلة مُستعصية على الحل، بموازنة للدولة لا يعرف مأتى جزء مهم من الموارد التي تحتاجها، بحيث لا تُعتَبر موازنة مُستقيمة على إعتبار أنها مُختَلّة العناصر. ومن جهة أخرى فإنه يركب القطار في أثناء سيره، وهيكلية الموازنة جاهزة. ومهما كانت مواهبه وكفاءته، ومهما علت تجربته ـ فإنه موجود اليوم أمام وضع يبدو مستحيلاً ومُستعصياً على الحلّ، في بلدٍ مستعصٍ على الإصلاح، وطبقة رجال أعمال مُتوَجّسة وبالتالي غير قابلة للإقدام على المخاطرة، وغيابها لا يُشجّع، بالإضافة عن عدم إقدامها على الإستثمار، العنصر الخارجي بدوره على المغامرة في تونس أو الثقة فيها. هذا فضلاً عن غياب الدولة، أو لنقل صراحة عن إستقالتها من دورها، وتواجد حركة نقابية قائمة على المطلبية المُفرطة من دون أي تحليل للوضع الحقيقي للبلاد ومتطلباته، مُعتَبرةً أن الدولة بمكوِّناتها بقرة حلوب لا ينضب ضرعها. حركةٌ غير قابلة للجلوس على مائدة الدرس، في نظرة للإقتصاد الكلي للدولة، كما هو الشأن في البلدان المتقدمة، حيث كل الأطراف الإجتماعية تنطلق من وضع قائم، وتَبني مواقفها على أساسه.
وإذ نقول ذلك فلا يفوت المرء، ملاحظة هذه الثروات الضخمة التي تنشأ بين ليلة وضحاها، بلا جهدٍ ولا فكر، مُتَوسِّلةً التهريب وفساد الإدارة، أو إحجام التونسيين عن دفع ضرائبهم إما بالإمتناع، أو برفض التصريح، ما يؤدي إلى إخضاع من هم تحت اليد، حتى النزيف، ما يوقف الإستثمار، ويُقلّل فرص الإدّخار.
وقد وجب القول أن التهريب والتجارة المُوازية والتهرّب الضريبي تمثل دملاً في جسم الأمة التونسية، وتُعتَبر ثلاثتها صنواً للإرهاب، لا تختلف عنه في النتيجة بل لعلّها تصبّ في بعضها البعض.
ويتفق كل المحللين السياسيين والإقتصاديين والإجتماعيين على القول بأن الإقتصاد الموازي يُشكّل نصف الأنشطة القائمة في البلاد، وهو إقتصاد لا يُساهم في دفع الضرائب، ولا في دفع ما عليه للصناديق الإجتماعية، بالإضافة إلى ما يُدخِله من إضطراب على الدورة الإقتصادية. وتقول مسؤولة كبيرة سابقة في إدارة الضرائب، إن الدولة لا تحصل إلا على نصف مستحقاتها، وبالتالي يبقى الضغط الضريبي مرتفعاً على من هم تحت اليد من أُجَراء وشركات في القطاع المُنظّم .
وفي إقتصاد طبيعي، فإن نسبة النمو المتصاعدة من عام إلى آخر تكفي الدولة مؤونة زيادات متلاحقة في الضرائب والأداءات. وإذا رأيت وزير مالية حائراً باحثاً عن موارد جديدة لمجابهة مصاريف عادية عادة، فإعلم أن الإقتصاد في أزمة، وأنه لا يوفّر الكفاية من الموارد للسير الطبيعي لمصالح الدولة، فضلاً عن العجز في مجال الإستثمار العمومي وتجهيز الدولة.
وهذا هو حال البلاد منذ 7 سنوات، أي منذ الثورة. وإذا كان من ثاروا أو إنتفضوا قد أملوا في السنة الأولى بعد الثورة أن تتحسن أوضاعهم، فلقد كانت خيبتهم مريرة. فالوضع يزداد سوءاً عاماً بعد عام، ومن المقدر له أن يزداد سوءاً في العام الوافد 2018 وربما أكثر في العام 2019 وما بعده.
والحكومات المتعاقبة منذ 2011 لم تأخذ الثور من قرنيه لتقوم بالإصلاحات الواجبة توسّلاً للنجاح في الإنتخابات. وكان أن إستقال وزير المالية حسين الديماسي بعدما نبّه، من دون جدوى، إلى أن البلاد تسير على طريق خاطئ. وكان ذلك بعد تشكيل حكومة “الترويكا” الأولى بستة أشهر عندما كان مُمكناً للحكومة وقتها أن تُصارح الشعب بحقيقة الأوضاع على أساس أمرين إثنين:
• أولهما أنها ورثت وضعاً سيئاً، سواء كان ذلك صحيحاً أو خاطئاً، وأنها في حاجة إلى تسامح شعبي واسع يُطلق يديها.
• وثانيهما أن إصلاحات عميقة موجعة هي ضرورية وينبغي الإقدام عليها.
ولسنا من الذين يقولون بأن الوضع كان مثالياً قبل 2011. صحيحٌ أن النسبة المتوسطة للنمو كانت في حدود معدل 5 في المئة، لكنها لم تكن لتفرز التنمية المطلوبة، والدليل أن الشعب، سواء بإيعاز خارجي أو لا، ثار على وضع لم يكن قد حقق له الكفاية، وهذه النسبة، وإن كان مأمولاً الرجوع إليها اليوم، كانت قاصرة بسبب قصور الإدخار والإستثمار نتيجة تدهور الثقة داخلياً وخارجياً بسبب تسلط فئة الأقارب على رجال الاعمال والإستئثار بالمشاريع المُربحة، وتعاظم الفساد، وعدم قيام العدالة بواجبها، مما لم يمكن البلاد من تحقيق نسبة نموٍ مُخطّطة، في زمن وزير التخطيط مصطفى كمال النابلي، بسبعة في المئة على الاقل في وقت باتت بلدان عربية وإفريقية أقل من تونس موارد وكفاءات تحقق نسبة نمو من رقمين. ونتيجة لذلك فقد أفرز الوضع بطالة هيكلية، وتفاوتاً بين الجهات والفئات لم يعد مُحتَملاً. صحيحٌ أنه كان هناك وضع متمثّل في توازن موازنة الدولة ووفرة في الموارد مكّنت من إستقرار عجز الموازنة بنسبة 2.6 في المئة. وصحيحٌ أن المديونية كانت تقلصت إلى 38 في المئة (وصلت حالياً إلى 70 في المئة من الناتج). وصحيحٌ أن ميزان المبادلات التجارية، وإن لم يكن متوازناً، قد سمح لميزان الدفوعات بأن يكون في حالٍ أفضل بإعتبار الموارد المتعددة من العملة الأجنبية. وصحيحٌ أن قيمة الدينار قد تدهورت، ولكن إلى ربع ما كانت عليه قبل بضع سنوات، ولكن الدينار حاليا فقد أصبح شبحاً لنفسه. أما نسبة التضخم الحالية قياساً فحدّث ولا حرج. وإذ كان ينبغي إتخاذ قرارات موجعة في 2012 عند قيام حكومة “الترويكا”، ولم تكن لها الشجاعة لإتخاذها مما زاد الأمر سوءاً، كما كان صحيحاً أن حكومة الحبيب الصيد، ثم حكومة يوسف الشاهد، كان عليهما مصارحة الشعب بحقيقة الوضع، ولكنهما كانتا من الجبن بحيث تركتا حبل الخراب على الغارب إلى حد ما وصلت إليه البلاد حالياً في سنة 2017، وبخاصة ما سيعانيه الشعب في 2018 و2019، ومن يدري ماذا سيحدث بعد ذلك.
إن الآتي أعتى وأكثر إيلاماً ووجعاً. لقد تأخر إتخاذ القرارات الواجبة في الوقت المناسب، وكما هو الواقع مع الصحة، فإنه كلما تأخر التشخيص والمداواة كلما إستفحل المرض، وتونس اليوم تشكو من مرض أزمن نتيجة إهمال تواصل 7 سنوات زاد من إستفحاله وضع سياسي ضبابي، فالمجتمع ليس واثقاً ممن سيحكم البلاد مُستقبلاً، وبأي نمط، ولذلك فإن الثقة مهتزة، ويزيد القلق تولّي المسؤوليات من أفراد لا يحملون لا كفاءة ولا عزيمة ولا شجاعة.
لقد وجب اليوم أن تقف السلطة في تونس كما قال رئيس الحكومة والقيام بعملية جراحية دقيقة على أساس:
• الإستعادة الفعلية لهيبة الدولة وقرارها وتنفيذ القرارات، والكف عن الإضرابات والإعتصامات وقطع الطرق ومنع العمل والإنتاج.
• مجابهة قضية الدعم بالشجاعة الواجبة، فالنزيف بلغ حداً ليس بعده حد، وموازنة الدولة لم تعد قادرة على الإحتمال. ولقد وجد المغرب حلاً مُرضياً لكل الفئات في هذا المجال. فلماذا لا يتم الإستئناس بالحل المغربي، ونخفف على موازنة الدولة.
إن موازنة الدولة ليس ضرعاً لا يجف من الحليب، لماذا إذن تتحمل العجز المالي للمؤسسات العمومية، وبدل أن تقدّم السند لموازنة الدولة نجدها تقوم بحلبها فوق طاقتها، كما هو الحال بالنسبة إلى الصناديق الخاصة بالتأمينات الإجتماعية. ولعلّ التقاعد في تونس ووفقاً لأقوال الإختصاصيين هو الأكثر سخاء في العالم منذ 1985/1986.
إن العلاج لا بد أن يكون موجعاً ولكن هل من سبيل غيره. وحكومةٌ تخاف من شعبها، ليست سوى حكومة ضعيفة غير كفوءة وغير قادرة بيداغوجياً للتواصل مع ذلك الشعب وغير قادرة على إقناعه ووجب عندها تغييرها.

• كاتب وصحافي تونسي مخضرم، ورئيس تحرير سابق لصحيفة “الصباح” التونسية. fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى