حقائق صادمة

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

كانت حانقة، وكنتٌ لا أجد من الكلمات ما يُهدّئ سورتها. إنتظرت بفارغ ألم حتى إنتهت من حكايتها. كانت أستاذتي الجامعية قد بلغت من العمر سن الحكمة، لكن ما حدث معها كان أكبر من تجاربها جميعاً. ولم تكن تُجيد الدراما رغم أنها كانت تُدرّسها لنا بإقتدار. كانت الأستاذة عزة جاب الله قد فُصلت حديثا من كلية الآداب لمجرد أنها وضعت دائرة حمراء حول مادة تخصصها أمام إسم ربة الصون والحظوة إبنة عميد كلية الآداب في ذلك الوقت.
لا أكاد أنسى وجهها المُحتقن وعينيها الغائرتين، وثورة لا تكاد تهدأ بين جنبيها. فقلت لها بطفولية فجّة :”لو طبّقنا شريعة الله، لما حدث ما نرى.” فأجابتني برد نزل عليٓ كالصاعقة :”لو كنا بوذيين، لما حدث هذا”. فهل تراها أخطأت حين إستشهدت ببوذا وأتباعه يا ترى؟ وهل تراها الآن حية تُشاهد ما يفعله أتباع بوذا بأنصار محمد من مسلمي الروهينغيا في ميانمار (بورما سابقاً)؟ ولو كانت حية وتشاهد، هل تراها تراجعت عن تصريحها الذي صدمني للغاية في مقتبل الحمية؟
ولأنني قد رأيت في سنوات الهشيم الأخيرة من أتباع محمد ما لا يمكن أن يُنسَب إلى ديانته، قررت تقليب صفحات التاريخ لأخرج هذا البوذا من تابوت الورق وأستنطقه لأرى إن كان أتباعه يمارسون هذا الحمق الطائفي بوازع عقائدي، أم هو الحقد الأعمى الذي يذهب بالقلوب والأبصار والدين جميعاً.
جلست إلى جوار أم بوذا وهي تحدث جاريتها قبل الميلاد بأربعة قرون بما رأته حين حملت به: “رأيتُ في المنام فيلاً أبيض له أربعة أنياب يدخل خصري الأيمن ليستقر في رحمي”. ثم رأيتها بعد تسعة أشهر من الحمل جالسة تحت شجرة سدر بين قصر زوجها وقصر ذويها لتضع غلاماً قال عنه راهب الجوار حين رآه: “لو قدر لهذا الطفل أن يحيا لأصبح ملكاً مُتوَّجا أو قائداً مُتَّبَعاً”.
ورأيتُ هذا الشاب يرفل في أغلى الثياب ويَمتطي أمهر الخيول فتخرّ أمامه جباهٌ وتنحني قامات حتى بلغ من العمر تسعة وعشرين عاماً، فإذا به يتمرّد على سلطان الرغبة ويقفز فوق حاجز الطبقية، ويخرج من إطار قصره الضيِّق ليصافح آلام البسطاء.وعلى إثر ذلك يقرر الخروج من قصره ذات غفلة من أبيه في ثياب شحّاذ بسيط، فيسأل الناس اللقمة ويطلب من الإله الحكمة. فلما يستعصي عليه التنوير سبع سنوات عجاف، يقسم أن لا يبرح مكانه حتى يمنّ عليه الإله بالوعي. وبعد تسعة وأربعين يوماً من الوحدة، تهبط على روحه السكينة، ويعود إلى قومه مُحمَّلاً برسالة لم يوحِ بها الإله، ولكن مصدرها بؤس الإنسان.
وحين يسأله قومه: “هل عرفت الإله يا بوذا؟”، يجيبهم في تواضع جمّ: “لم أعرف الإله، لكنني عرفت الكثير عن بؤس الإنسان”. لم يُنادِ الإله بوذا من فوق جبل، ولم يخلع الرجل نعليه، لكنه خلع أنانيته وتجرّد لمواساة أخيه الإنسان. كان غوتاما بوذا يصرخ في أتباعه ناصحاً: “لن يجد السلام من يحمل في قلبه مثقال ذرة من حقد”. “لن توقف الكراهية عجلة الكراهية .. إنما يوقفها الحب، وتلك هي القاعدة الخالدة.”
لم يدعُ غوتاما لحرق الشيوخ وبقر بطون النساء واللهو بجماجم الأطفال في حفلات دموية صاخبة. وبريء بوذا من أتباعه السُفهاء الذين إستبدلوا كلماته الخالدة بصرخات حفنة من جهلاء الكهانة. بريء بوذا بسيرته وبريء بوصاياه، وقد أمر أتباعه أن لا يتّخذوا من بعده قائداً، وكأنه كان يعلم أن التحريف والتبديل سنة الجهلاء الذين لا يصبرون على حق ولا معروف.
ذكّرتني مواعظ بوذا بالمسيح عليه السلام حين منع أحد حوارييه من الدفاع عنه قائلاً :”إن من يَأخذون بالسيف، بالسيف يهلكون”. كما تداعى إلى ذهني موقف عثمان عليه السلام حين إلتفّ حول داره ألفان من أشقياء الكوفة والبصرة يريدون قتله، فإذا به يصرف من حوله من الصحابة حتى لا تُراق الدماء وتعمّ الفتن. وتذكرتُ محمداً وهو يقف على قمة جبل الإنسانية يُنادي فيمن آذوه وعذّبوه وقتلوا أتباعه وإستحلّوا محارمهم: “إذهبوا فأنتم الطلقاء”.
بريء بوذا ممن إستغلوا الأردية البرتقالية ليأمروا الناس بذبح الأطفال وحرق القرى وإغتصاب النساء، وبريء عيسى ممن رفعوا صليبه فوق محاكم تفتيش غبية ليكرهوا الناس على الدخول في دينهم أفواجاً، وبريء محمد ممن رفعوا آلاف الرايات بإسمه وإقتتلوا في سبيل الطاغوت. وبريئة الإنسانية ممن يقذفون وجوه المدن بالقنابل العنقودية والبراميل المتفجّرة.
لو كانت أستاذتي عزّة جاب الله حية، أتمنى أن تقرأ مقالي. ففيه إعتراف تأخر ثلاثة عقود بأننا لو اتبعنا أي ملة، ولو كانت وضعية، لما وصل بنا الإسفاف هذا الحد المهين. ولو إتبعنا أي شريعة، ولو كانت بوذية، لما إستبد بنا الحمق وذهبت بنا الضغائن كل مذهب. ولو كانت أستاذتي غادرت هذا الواقع الذي يزداد جهالة كل صباح، أدعو الله أن يغفر لها قدر ما علِمت وعلمتني.

• أديب، كاتب وصحافي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى