ديبلوماسية الطاقة الروسية في الشرق الأوسط: كيف عزَّز الكرملين مكانته في المنطقة

أعادت روسيا إستراتيجية سياستها الخارجية إلى الشرق الأوسط، المصدر السوفياتي القديم للنفوذ الجيوسياسي، عقب فرض الغرب عقوبات ضدها بسبب الأزمة الأوكرانية، بعد أن تعثرت إستراتيجيتها لبيع الغاز للصين بسبب تباطؤ النمو الإقتصادي في بلاد ماوتسي تونغ، وبعدما قلّص الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما دور بلاده في الشرق الأوسط خلال الفترة الثانية من رئاسته.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان: الحاجة إلى رفع الأسعار قرّبت البلدين

بقلم جيمس هندرسون وأحمد مهدي*

عندما قرّر كلٌّ من الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، في آذار (مارس) 2014، فرض عقوبات على روسيا في أعقاب أزمة أوكرانيا، فقد حاولا إستهداف عاملاً رئيسياً للنفوذ الجيوسياسي الروسي: قطاع الطاقة. وقد لسعت هذه العقوبات صفقات تمويل مشاريع الطاقة الروسية وعثّرتها وزادت مستوى المخاطر المُرتَبِطة بالديون الروسية. ردّاً على ذلك، حاول الكرملين بناء قنوات جديدة لتمويل الطاقة وأسواق التصدير. وكان ميله الأول هو التحوّل إلى المستهلكين الذين ينمون بسرعة في آسيا، مع التركيز بشكل خاص على الصين. بالإضافة إلى صفقة أيار (مايو) 2014 مع شركة “غازبروم” الروسية التي بموجبها تُزوِّد شركة البترول الوطنية الصينية بما يصل إلى 38 مليار متر مكعب من الغاز لمدة 30 عاماً، فقد أصبحت الصين مصدراً للقروض الروسية لمشاريع النفط والغاز الطبيعي المسال وأسواقهما.
غير أن التقدم المُحرَز في إستراتيجية الغاز الروسية الشرقية منذ ذلك الحين كان بطيئاً، ويرجع ذلك أساساً إلى تباطؤ النمو في الصين وقدرتها على إستغلال موقفها التفاوضي القوي مع روسيا التي تقطّعت بها السبل وتعثّرت خطتها الهيدروكربونية الشرقية بسبب نقص الأسواق المُتاحة بسهولة. ونتيجة لذلك، حوّل الكرملين إستراتيجية سياسته الخارجية إلى مصدر سوفياتي قديم من النفوذ الجيوسياسي في الشرق الأوسط. إن قرار الولايات المتحدة التخلّي عن دورها كضامن إقليمي رئيسي خلال فترة رئاسة باراك أوباما الثانية، الذي إتّضح من سلسلة التحوّلات حول سوريا وقرار الدعم غير المباشر لإعادة التوازن الإقليمي للنفوذ بين المملكة العربية السعودية وإيران في أعقاب رفع العقوبات النووية في العام 2016، قد تبعته مطالبة الكرملين بحصة في المناطق الساخنة في الشرق الأوسط، إضافة إلى إدراج قطاع الطاقة في قلب أسواق النفط والغاز في المنطقة.

موجة من صفقات الطاقة

أدّى تمديد إتفاق أيار (مايو) 2017 بين منظمة “أوبك” والدول غير الأعضاء فيها، للحدّ من الإنتاج في محاولة لتعزيز أسعار النفط، إلى جعل روسيا أكبر منتج خارج “أوبك”، والمملكة العربية السعودية أكبر مُصدّر مهيمن على النفط داخل “أوبك”. وكلا البلدين كان، ولا يزال، يحتاج إلى إرتفاع سعر النفط فوق 50 دولاراً للبرميل، فروسيا تحرص على الحفاظ على موازنتها كما هي قبل الإنتخابات الرئاسية في آذار (مارس) 2018، والسعودية تسعى بشكل يائس إلى تمويل حرب باهظة الثمن في اليمن، والحفاظ على الأحكام الإجتماعية لتجنّب الإضطرابات الداخلية، ودعم الطرح العام الأولي المُخطَّط له لأهم شركاتها، أرامكو السعودية. (في الواقع، فإن الصعوبات التي تواجه أرامكو السعودية للتغلب على العقبات التي تحيط بخصخصتها الجزئية يُمكن أن تكون هدفاً رئيسياً مُستَقبلاً للشركات الروسية).
أصبح أكبر مصدرين للنفط في العالم وثيقَي العلاقة منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، عندما قررت روسيا خفض الإنتاج بمقدار 300 ألف برميل يومياً — أي ما يعادل نصف إجمالي الإمدادات من خارج “أوبك”. وقد أعربت السعودية عن رغبتها في إضفاء الطابع المؤسسي على علاقات روسيا مع منظمة “أوبك”. وفي حزيران (يونيو) 2017، قام ولي ولي العهد (آنذاك) الأمير محمد بن سلمان ووزير الطاقة خالد الفالح بزيارة رسمية إلى سانت بطرسبرغ. وشهدت إجتماعاتهما مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ووزير الطاقة ألكسندر نوفاك الكثير من التهنئة المتبادلة على النجاح الملحوظ للإستراتيجية المشتركة بينهما في سوق النفط، فضلاً عن الحديث عن التعاون الثنائي والمشروعات المشتركة فى صناعة النفط.
مع ذلك، فإن روسيا لم تتحالف مع السعودية فقط. يُمكن رؤية محاولات موسكو لنشر مصالحها عبر الشرق الأوسط في صفقات الشركات التي تم توقيعها على مدى العامين الماضيين في بلدان متعددة. فعلى سبيل المثال، قامت شركة “لوكويل” (Lukoil) الروسية بتشغيل إنتاج النفط في حقل القرنة الغربي في العراق منذ العام 2009، وهي تجري مفاوضات لتوسيع الإنتاج هناك والبدء في الإنتاج في حقل “إريدو” المُكتَشف حديثاً. وإلتقى الرئيس التنفيذي لشركة “لوكويل”، فاجيت أليكبيروف، أخيراً وزير النفط الإيراني بيجان زانغنه لمناقشة الإستثمار في حقلين نفطيين من الحقول البرية. وقد قامت “غازبروم نفت”، الشركة النفطية التابعة ل”غازبروم”، بتطوير ثلاثة “بلوكات” إستكشافية تسمح لها بالحفر والبحث عن الهيدروكربونات في كردستان بينما تعمل أيضاً في حقل “بدرة” في جنوب العراق. كما وقّعت شركة “روسنيفت” الروسية إتفاقات تعاون فى كردستان وليبيا وإشترت حصة 30 في المئة من حقل الغاز “زهر” العملاق فى مصر. وقد بدأت الشركة الجديدة التابعة لها، “باشنفت”، الحفر في “بلوك 12” في العراق. بالإضافة إلى ذلك، بدأت أربع شركات نفطية روسية التفاوض على فرص في سوريا، وهو مشروع مدفوع بالسياسة كما بالمصالح التجارية – على الرغم من أن إحتمال العثور على حقول نفطية جديدة كبيرة في سوريا منخفض نسبياً، إلا أن الإستثمارات لها دلالة رمزية واضحة.
في إيران، تتفاوض “غازبروم” مع السلطات هناك للإستثمار في حقل بارس الشمالي (وهو مشروع مُحتمَل للغاز الطبيعي المُسال)، وفي حقل غاز “فرزاد B” البحري، مع النية المعلنة، مهما كانت بعيدة المنال، هي توفير صادرات الغاز إلى باكستان والهند، التي من شأنها أن توفر أداة تفاوض ديبلوماسية أخرى ممكنة لروسيا. وعلاوة على ذلك، وقّعت شركة “غازبروم نفت” مذكرة تفاهم مع شركة النفط الوطنية الإيرانية لتطوير مشروعين نفطيين مُحتَمَلَين، في حين وقعت شركتا “زاروبيزنفت” (Zarubezhneft) وتاتنفت (Tatneft) أيضاً صفقتين نفطيتين لكل منهما مع طهران. وعلى صعيد حكومي، وقعت وزارة الطاقة الروسية على إتفاق “مقايضة النفط ببضائع” الذي ستشتري بموجبه 100 ألف برميل يوميا من النفط الخام الإيراني عبر شركتها التجارية “برومسيرييمبورت” (Promsirieimport).

ديبلوماسية ثلاثية

كل هذا النشاط يجعل من الواضح أن روسيا تستخدم ديبلوماسية الطاقة وشركاتها النفطية للعب دور المفاوض بين مختلف الأفرقاء، والأهم بين إيران والمملكة العربية السعودية. وللتأكيد، فإن هذه العملية كانت بدأت بشكل صعب، حيث أن فشل إجتماع “أوبك”، الذي عُقد في الدوحة في 2016، أعيد سببه جزئياً إلى عجز روسيا عن جلب إيران إلى طاولة المفاوضات. ومنذ ذلك الحين، كان الكرملين ناجحاً إلى حد ما في الحفاظ على توازن في علاقاته مع كلا الدولتين. وعلى الرغم من أنه لم يستطع تحقيق أي تقارب بينهما، إلا أنه أظهر مع ذلك توازناً نسبياً. وهذا ما سمح له التفاوض على إتفاقات تجارية في كلا البلدين، مع تقديم الدعم للتعاون في إطار منظمة “أوبك” التي ربما من دونها لم تكن ممكنة، نظراً إلى عدم رغبة إيران الأولية في الإمتثال لأي إتفاق إنتاج إلى أن يصل إنتاجها النفطي إلى مستويات ما قبل العقوبات. ونتيجة لذلك، تمكنت موسكو من إكتساب المصداقية لدى الجانبين وتعزيز مكانتها في المنطقة.
إن فوائد توسيع الوجود الروسي في الشرق الأوسط ليست سياسية فحسب بالنسبة إلى موسكو. لقد كانت أهم آثار العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على البلاد مالية. وفي منع وعرقلة وصول شركات روسية مُحدَّدة إلى أسواق رأس المال الدولية، فقد جعل ذلك خدمة الديون قصيرة الأجل أكثر صعوبة. ورداً على ذلك، بحثت روسيا عن مصادر بديلة للتمويل، وكان هناك طريق واضح واحد عبر شركات تجارية تعمل في مجال الطاقة مثل “غلينكور” و”فيتول” و”ترافيغورا”، وكلها مستعدة لتقديم ترتيبات وتسهيلات لشراء النفط قبل عملية الشراء، حيث تقدم هذه الشركات التجارية مبلغاً من المال في مقابل تسليم النفط الخام. ونظراً إلى أهمية المنطقة في سوق النفط، فإن هؤلاء التجار لديهم روابط قوية مع الشرق الأوسط، ونتيجة لذلك يوفّرون قناة أخرى لزيادة المشاركة الروسية. وشاركت الشركات الروسية أيضاً في تداول النفط الخام الكردستاني (مستفيدة من أسعاره المتدنية في السوق)، حيث أن “روسنيفت”، على سبيل المثال، إستخدمته مقابل الدفع المسبق لنفط مصافيها الأوروبية. والأهم من ذلك أن تجار النفط تمكنوا أيضاً من إيصال الشركات الروسية إلى مصادر جديدة لرأس المال.
وأوضح مثال على ذلك هو إستثمار شركة”غلينكور” وجهاز قطر للإستثمار في شراء 19.5 في المئة من “روسنيفت” في كانون الأول (ديسمبر) 2016، الأمر الذي عزز الروابط الروسية في مجال الطاقة مع الشرق الأوسط من خلال التأكيد على أن الإستثمار المباشر من المستثمرين في المنطقة في الأصول الروسية هو موضع ترحيب. ومن دون قصد، فقد تضع هذه الصفقة أيضاً الكرملين في قلب مثلث ديبلوماسي إقليمي آخر، نظراً إلى التحرّك الأخير الذي قامت به المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر في قطع علاقاتها مع قطر. ومن الواضح أن السلطات الروسية ستواجه تحدياً للحفاظ على علاقات ودية على جميع الجبهات.
على الرغم من النجاحات التي حققتها روسيا في العامين الماضيين، فمن غير المؤكد كم من الوقت يمكن لموسكو الحفاظ على دورها “التثليثي” أو المثلث. ويبدو أن كلاً من العاصمتين الروسية والسعودية حريصتان على إقامة شراكة طويلة الأمد مع الحديث عن إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات وتعزيز التعاون الثنائي. وعلاوة على ذلك، فقد أثارت زيارة الرئيس التنفيذي لشركة “روسنيفت” إيغور سيشين إلى الرياض روايات داخل دوائر صناعة النفط بأن روسيا والسعودية قد تستعدان لإجراء مبادلات نفطية، بل وتقسيم السوق الآسيوية من أجل تجنب المنافسة المفرطة. بيد أن هذا الزخم الإيجابي بُني على أسس غير مؤكدة نسبياً. وسوف تتغيّر حوافز الدولتين حول إتفاق منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) مع إنتهاء إتفاق التمديد الجديد في آذار (مارس) 2018. بحلول ذلك الوقت، من المحتمل أن يكون فلاديمير بوتين قد أُعيد إنتخابه، مما سيحدّ من الضغط على روسيا للحفاظ على سعر أعلى للنفط ومواصلة سياسة المزيد من ضبط الإنتاج، والتي ستكون بعد ذلك أكثر ضرورة وإلحاحاً للمملكة العربية السعودية.
إذا كان هناك تغيير في الموقف الروسي من إتفاق “أوبك”، فإن التوترات السياسية الأخرى بين إيران وقطر وسوريا يُمكن أن تظهر، وربما ستتفاقم بسبب العودة المُحتملة للنفوذ الأميركي إلى المنطقة، بالنظر إلى محاولات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة لإعادة إحياء علاقات أميركا القوية مع السعودية (الذي ساعده موقفه المناهض لإيران). إن إستراتيجية روسيا المتمثّلة في خلق مثلثات ديبلوماسية ستُختَبَر بعد ذلك إختباراً شديداً، ويُمكن أن تصبح صفقات الشركات التي جرت في جميع أنحاء المنطقة جزءاً حيوياً مهماً في إستراتيجية الكرملين.

• جيمس هندرسون هو مدير برنامج الغاز الطبيعي في معهد أكسفورد لدراسات الطاقة. وأحمد مهدي هو مستشار في أسواق التمويل والطاقة؛ وعمل سابقاً في “برايسواترهوس كوبرز” الإستشارية في لندن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى