الصدام الإيديولوجي العميق الذي يؤجّج الخلاف بين قطر وجيرانها

يعدد الخبراء الكثير من الأسباب التي أشعلت أزمة قطر، لكن في صلب الموضوع يبقى سبب أساسي يتمثل بطبيعة ودور ومستقبل جماعة “الإخوان المسلمين” والجماعات الإسلامية المماثلة في المنطقة.

حركة “حماس”: جزء من الأزمة القطرية

بقلم حسين إيبش*

يبدو أن المواجهة الجارية حول سياسات قطر قد أُسيء فهمها وتفسيرها في أنحاء عدة من المجتمع الدولي حيث إعتُبِرت على أنها مجرّد “مُشاحنة” صغيرة بين خصوم محليين. لكن، على النقيض من ذلك، تعكس هذه الديناميكية المُعقَّدة نضالاً إيديولوجياً عميقاً وإقليمياً يجري في ثلاث مناطق رئيسية من العالم العربي: قطر في الخليج، وغزة في المشرق العربي، وليبيا في شمال أفريقيا.
في صلب الموضوع يكمن طبيعة ودور ومستقبل جماعة “الإخوان المسلمين” والجماعات الإسلامية المُماثِلة في المنطقة.
أدّى الإنقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس المصري محمد مرسي من منصبه في العام 2013، وما أعقبه، إلى إيقاع وإغراق أحزاب “الإخوان المسلمين” في جميع أنحاء العالم العربي في أزمة وجودية. في الواقع، يبدو أن حركة الإخوان التقليدية – التي أُنشئت في مصر في عشرينات القرن الفائت، والتي تَمَحوَرت حول منهجية لينينية أساسية لطلائع ثورية حضرية – بدأت تتفكّك.
ويسعى العديد من جماعات الإخوان الآن إلى التكيّف والبقاء على قيد الحياة من خلال التحوّل إلى أحزاب سياسية شرعية، في فترة ما بعد الثورة وفعلياً ما بعد مرحلة الأحزاب الإسلامية المحافظة. وتشمل هذه الجماعات حزب “النهضة” في تونس، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، وحزب جبهة العمل الإسلامي التابع لجماعة “الإخوان المسلمين” في الأردن، وحزب التجمع اليمني للإصلاح في اليمن، ومجموعات مماثلة في الكويت وأماكن أخرى.
إن أعضاء “الإخوان المسلمين” الذين لا يحبّذون مثل هذا الإعتدال فإنهم، بدلاً من ذلك، ينسحبون ويتحوّلون إلى جماعات أكثر تطرفاً وتعصّباً مثل تنظيم “القاعدة” أو تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) أو غيرهما من المنظمات الإرهابية السلفية الجهادية.
بين حتمية الإعتدال وإغراء التطرف، فإن حركة “الإخوان المسلمين” التقليدية المألوفة، ولكنها المتناقصة، لديها عدد قليل فقط، وإن كان كبيراً، من المعاقل الباقية.
إن قوة قطر المالية الناعمة و إمبراطوريتها الإعلامية، التي تضم قناة “الجزيرة” الفضائية، تعملان على التوالي كمموّل للإخوان وبوقٍ لهم. إن حكم “حماس” في قطاع غزة هو آخر حكومة أمر واقع للإخوان وجيبٌ إقليمي رئيسي. وفروع “الإخوان المسلمين” في ليبيا لا تزال قوى سياسية تقاتل بفاعلية.
لكن كل هذه القوى الثلاث تواجه تحدياً في وقت واحد من قبل القوى العربية غير الإسلامية. فمصر والإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، تشاركان في الضغط على كلٍّ من “قطر” و”حماس”، وتكافحان المتطرفين في ليبيا.
وتضغط السلطة الفلسطينية ومصر وإسرائيل بشكل مباشر على “حماس” لتخفيف قبضتها على غزة وما يقرب من مليوني فلسطيني يعانون من فترة طويلة.
وتراقب مصر وإسرائيل بشدة الحركة مِن وإلى غزة. كما عرقلت القيود الغربية المفروضة على التعامل مع “حماس” — التي تم تصنيفها على نطاق واسع كمنظمة إرهابية — إلى حد كبير العمل الإنساني والإنمائي. وتقول الأمم المتحدة إن الظروف المعيشية في القطاع أصبحت “بائسة أكثر فأكثر” خلال عقدٍ من حكم “حماس”.
والآن، بعدما سئمت من “حماس”، فرضت السلطة الفلسطينية بدورها تدابير إضافية، مما أدى إلى الضغط على كلٍّ من سكان غزة المحاصرين وحكامهم. وإذا كانت “حماس” تصر على فرض إحتكار السلطة في غزة بالعنف، تقول السلطة الفلسطينية، فإنها يجب أن تتحمل التكاليف والتداعيات بنفسها.
وتطالب “حماس” السلطة الفلسطينية بتمويل الكهرباء في غزة، ولكن “رام الله” خفّضت المدفوعات للمورّدين الإسرائيليين. كما خفّضت رواتب بعض الموظفين العموميين وأُسَر السجناء، من بين تدابير أخرى.
الواقع أن “حماس” تُظهِر علامات واضحة من التوتر. في نيسان (إبريل) الفائت، طرحت “ميثاقاً” جديداً أكثر إعتدالاً من وثيقة تأسيسها الشائنة في العام 1988، ولكنه لا يلغيها أو يستبدلها ويحل مكانها. وبالتالي، فإن لدى “حماس” الآن بيانين رسميين للعمليات الرسمية، أحدهما لقاعدتها الراديكالية والآخر للجميع. لذا لا ينخدع أحد.
تعتمد “حماس” تاريخياً على دعم تركيا و، وخصوصاً، قطر حيث تم إطلاق “الميثاق الجديد”. لكن تركيا إستأنفت علاقاتها الوثيقة مع إسرائيل. ومع تحوّل إهتمامها السياسي إلى الداخل، أصبحت بلاد أردوغان الآن ملجأً لقادة الإخوان المنكوبين أكثر من كونها راعياً قوياً. ومن جهتها تواجه الدوحة مشاكل أكبر من أنقرة، ولا يمكنها أن تفعل شيئاً يُذكر لدعم “حماس”.
في ليبيا، وهي الجبهة الرئيسية الثالثة في هذه المواجهة الإيديولوجية، فإن عملاء قطر – الذين ينتمون أساساً إلى جماعة الإخوان وميليشيا “الفجر الليبي” التي تسيطر على طرابلس – يكافحون أيضاً. لقد قام الجيش الوطني الليبي المناهض للإسلاميين المتطرفين، الذي تدعمه مصر والإمارات العربية المتحدة، أخيراً بتعزيز سيطرته على بنغازي والعديد من محطات النفط المهمة، فضلاً عن قاعدته في طبرق.
وكما هو الحال مع الأزمات التي تشترك فيها قطر و”حماس”، فإن المعركة في ليبيا تمثّل في جزءٍ منها مواجهة بين بعض بقايا جماعة “الإخوان المسلمين” التقليدية والقوى العربية المُعارِضة للإسلام الراديكالي.
إذا إضطرت قطر إلى التخلّي عن سياساتها الموالية للإخوان، فإن “حماس” ستكون مُجبَرة على تخفيف قبضتها على “غزة”، والقوى المناهضة للإسلاميين سوف تُعزز سيطرتها على المناطق الرئيسية في ليبيا، ومن ثمّ سيكون من الصعب جداً على حركة الإخوان المألوفة في القرن العشرين أن تستطيع العمل سياسياً لفترة أكثر في القرن الواحد والعشرين.
ومن المؤكد أن مثل هذه التطورات ستسرّع بخيار مزدوج ناشئ يواجه جماعة “الإخوان المسلمين”. يُمكِنها أن تتبع المسار العملي لرشيد الغنوشي و”النهضة” في تونس، وتتحوّل إلى روحية ما بعد الثورة وأساسياً إلى مرحلة ما بعد الأحزاب السياسية الإسلامية الشرعية المحافظة. أو أنها يمكنها أن تخنار طريق العنف كما أبو بكر البغدادي و”داعش”، والإنضمام إلى الجماعات الإرهابية المنعدمة وأساساً المريضة عقلياً ونفسياً.
هناك جوانب وخصائص عديدة لأزمة قطر والصراعات في غزة وليبيا. لكن الإشتباك الإيديولوجي الراسخ في كلّ من المناطق الثلاث في ما يتعلق ببقاء ومستقبل جماعة “الإخوان المسلمين” الثورية والتخريبية التقليدية، ولكن العنيفة فقط من الناحية الإستراتيجية – التي تُعارض وتُعادي البدائل الناشئة في مرحلة ما بعد الأحزاب الإسلامية المحافظة، أو الإرهابيين المتطرفين الملعونين في العالم – هو بالتأكيد أكثر العواقب الإقليمية والتاريخية.

• حسين إيبش خبير في شؤون الشرق الأوسط وباحث بارز في معهد دول الخليج العربية في واشنطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى