إلى متى يستطيع اللبنانيون العيش في فقاعة إجتماعية – سياسية؟

بقلم رئيف عمرو

في تصريح أدلى به خلال بثّ إذاعي في تشرين الأول (أكتوبر) 1939، وصف رئيس حكومة المملكة المتحدة آنذاك ونستون تشرشل الإتحاد السوفياتي بأنه “أُحجية ملفوفة بالغموض داخل لغز”. الواقع أن تعريف رجل الدولة البريطاني، الذي حاول تقييم سلوك النُخبة الروسية، يُمكِن بسهولة أن ينطبق على أماكن أخرى، ويبدو مناسباً بشكل خاص للبنان، الذي تعتمد نخبته على دستور “ملوّث” لكنه لا يزال قائماً للدفاع عن ما تبقى من ثقافة البلد الديموقراطية. وتختلف التفسيرات، ولكن غالبية بارونات النظام اللبناني تفترض أن البلد مُلكٌ خاصٌ لها، وُضِع تحت تصرّفها ورعايتها الفاسدة لتقرير ما يحلو لها. فمعظمهم يرفضون إمكاناته، ويدوسون على حرياته، ويُضعِفون سيادته. إلى متى يستطيع اللبنانيون العيش في فقّاعة إجتماعية – سياسية؟
منذ ما يقرب من قرن، كانت النُخَب التي تظاهرت بأنها تَحكُم — على الرغم من أن محدودية المساءلة وسوء الإدارة والتحالفات الكاذبة قد أنتجت الفوضى والحروب وعدداً كبيراً من المشاكل التي لم يسبق لها مثيل – تتخطّى قدرتها الآن ميليشيا مُدجّجة بالسلاح ووجود الملايين من اللاجئين الذين سيؤدي مصيرهم النهائي أيضاً إلى تشكيل وتحديد مستقبل لبنان. في وسط التناقضات الإقليمية والدولية الرئيسية، فقد فشل القادة اللبنانيون وأخفقوا روتينياً في تجارب مختلفة، بما فيها إيجاد أفضل الطرق لحماية المواطنين من الشر والأذى. وقد وافقوا على، وشاركوا في، المجازر التي أدخلت مُصطَلح “اللبننة” إلى المعجم السياسي المعاصر، وهو ما يعني أن لبنان دولة نصف فاشلة مُنهارة حيث يتقاتل على أرضها الجيران بالوكالة من خلال ميليشيات طائفية ومن خلال العديد من الفصائل في حكومة غير قادرة على الحكم، مع العلم أنه في أوقات الحرب كانت الحياة تسير على ما يرام تقريباً، وفي أوقات السلم ليس الأمر كذلك أبداً.
ومما يُؤسَف له أن “حزب الله” يواصل تحدّي الدولة، حتى لو شارك في عروضها “الحكومية” المسرحية. إنه يريد تحويل البلد الصغير إلى كيان ثوري دائم تقريباً – على غرار ما كانت تريد “هانوي” القيام به في فيتنام ضد الولايات المتحدة – وذلك في ظل توجيه إيراني مُحَدَّد. وبإعتراف ممثليه ومجاهرتهم، فإن “حزب الله”، يدين بالفضل والولاء لرجال الدين في طهران، فيما هو يدّعي من دون أي خجل بحق إلهي في أن يقرّر عن جميع اللبنانيين من دون أن يسعى إلى الحصول على موافقتهم. فهو يُرسل الشبان إلى الموت في سوريا وفي أماكن أخرى في العالم العربي، ولا يُدرِك بأن مثل هذه المغامرات تضرّ بلبنان ومصالحه الجوهرية.
وتتناقض هذه الرؤية مع تلك التي يحتفظ بها اللبنانيون الآخرون، الذين تهدف نظرتهم الإجتماعية والسياسية إلى محاكاة ما حققته سنغافورة، أي إنشاء مجتمع دينامي يكون فيه القانون والنظام من المكوّنات الأساسية بدلاً من الأهداف النظرية. وهي تهدف إلى غرس الحرية في جميع المجالات وإحترام جميع الطوائف الإثنية والدينية. وبدلاً من البحث الغامض المسخّر من أجل الثورة، يركّز هؤلاء على الحياة والسعي إلى تحقيق السعادة، على وجه التحديد للإستمتاع بثمار إقتصاد قوي يشجّع على خلق الثروة. وتعتقد الغالبية الساحقة منهم في الواقع أن اللبنانيين يستطيعون إنجاز المعجزات، وجمع القمامة وإعادة تدويرها (بدلاً من إغراقها في البحر الأبيض المتوسط)، وتوفير 24 ساعة من الكهرباء يومياً، وإقامة بنية تحتية أساسية فعالة للبلد بأسره. معظمهم – بإستثناء النخب المراوغة والمخادعة التي تعتمد سبل عيشها على الفوضى العامة التي تسود في جميع المجالات.
بعد ثلاثة عقود من الإرباك المُنظّم، فإن اللغز يُخيّم طويلاً على طبقة سياسية كاملة، بغض النظر عن الإنتماء العرقي أو الديني. من المعقول أن نقول إن الأسرار الحقيقية والواقعية تتمثّل في الأعباء التي تفرضها الطبقة السياسية على لبنان بموافقة مواطنيه الذين يرضون ويقبلون بإستمرارية حكم أولئك الذين يفشلون بوضوح في الإستنباط والإتفاق على ما هو مصلحة وطنية، أو ما يجب أن تكون عليه. لماذا قَبِل اللبنانيون تلك النخبة التي أضعفت وتعمل على إضعاف كل مؤسسة؟ فلماذا سمحوا ولا يزالون يعهدون بمستقبل أمتهم الصغيرة إلى أولئك الذين نادراً ما يُقدّمون أهم المكوّنات الأساسية والملحة للمواطنين كممثلين عنهم في الحكومة؟ هل كُتِب على اللبنانيين أن يعيشوا بشكل دائم في فقّاعة إجتماعية – سياسية أم أن هذه الأخيرة ستنفجر على أساس منتظم تقريباً كما إنفجرت في 1952 و1958 و1975 و1982 و1990 و1994 و2005 و2006 و2008 – وكلّها تواريخ مفصلية زادت القلق الطويل المدى في البلاد؟
يبقى أنه لا يجوز التقليل من شأنها. إن النخب السياسية التي وافقت أخيراً على قانون إنتخابي جديد يقوم على النسبية – ويقسّم البلاد إلى 15 دائرة إنتخابية لحماية إعادة إنتخاب النواب الحاليين – من المرجح أن تُشرِع في إستثمارات مؤقتة، لتنشيط المشاريع الاقتصادية في الوقت الذي تستعد للإنتخابات البرلمانية التي ستجري في أيار (مايو) 2018. وقلّة ينبغي أن تُفاجأ من الافراج عن مشاريع للتنمية مُحدَّدة لتعزيز “القوة الشرائية” السياسية، والتي من شأنها ضمان إعادة الإنتخاب. ومما يؤسَف له أن اللبنانيين سيقبلون، لأن هذه الوعود والإستثمارات الخفيفة ستحسّن بشكل كبير الظروف الحياتية في المدى القصير، على الرغم من أن العنصر الأساسي، الحرية، سيظل مُعلّقاً. لذا لا يزال يتعيّن تحديد ومعرفة المدة التي ستستمر فيها هذه المسرحية أو المهزلة حتى يحين الوقت الذي تتمكن فيه الغالبية، التي تسعى جاهدة إلى الحرية، من الإنتصار في نهاية المطاف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى