ماذا يعني تدويل الرنمينبي للصين والعالم؟

منذ فترة والصين تسعى إلى تدويل عملتها، وجاءها أول الغيث في تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، عندما أضاف صندوق النقد الدولي الرنمينبي (أو اليوان) إلى سلة سحبه الخاصة التي تضم أيضاً الدولار، واليورو، والجنيه الإسترليني، والين الياباني. ولكن هل هذا يكفي لتحرير العملة الصينية؟ أم أ ن هناك شروطاً مالية وإقتصادية وسياسية يتبغي أن تحققها بكين قبل ذلك؟ وبالتالي ماذا يعني تدويل الرنمينبي للصين والعالم؟

الحزب الشيوعي الصيني: حجر عثرة أمام تدويل العملة الصينية.

بكين – عبد السلام فريد

في تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، أضاف صندوق النقد الدولي رسمياً العملة الصينية، الرنمينبي (أو اليوان)، إلى السلّة التي تشكّل حقوق سحبه الخاصة (Special Drawing Rights)، وهي الأصول الإحتياطية التي يُحدّد بموجبها الصندوق قروضه للحكومات. حتى ذلك الحين، كانت عملات الدولار الأميركي واليورو والجنيه الإسترليني والين الياباني فقط تتمتع بهذا الوضع المميّز. وقد أدّت إضافة الرنمينبي إلى سلة حقوق السحب الخاصة إلى إحتفال كبير في الصين. وأشاد لو جيان نائب رئيس مجموعة “غوانغدونغ غوانغكن روبر غروب” (Guangdong Guangken Rubber Group) بهذا الحدث وإعتبره بانه “لحظة تاريخية”. وأعلن بنك الشعب الصينى (البنك المركزي) أن هذه الخطوة هي “تأكيد على نجاح تطور الإقتصاد الصيني ونتائج إصلاح وإنفتاح القطاع المالي”. وفي ما يتعلق بالعديد من الصينيين، فإن خطوة صندوق النقد الدولي تشير إلى أن الرنمينبي قد أصبح عملة دولية رئيسية، وهذا ما يلائم أحد الإقتصادات الرائدة في العالم.
غير ان بعض المراقبين المستقلين أشار الى أن الإستقبال الرسمي فى الصين كان مُبالغاً فيه بالنسبة إلى أهمية هذا الحدث. وعلى أيّ حال، فإن حقوق السحب الخاصة هي أكثر بقليل من وحدات محاسبية يُجري فيها صندوق النقد الدولي معاملاته. ولا توجد سوق مخصصة لوحدات حقوق السحب الخاصة. وهي لا تُستخدَم من قبل المستوردين والمُصدّرين لتسديد الفواتير وتسوية الصفقات التجارية. كما أنها لا تُستخدَم في المعاملات المالية الخاصة. وكانت أهمية إضافة الرنمينبي إلى سلة حقوق السحب الخاصة، في هذا الرأي، أكثر رمزية من حقيقية.
مع ذلك، فإن الرموز مهمة. وفي هذه الحالة، فإنها تهمّ صانعي السياسات الصينيين الذين بذلوا في السنوات الأخيرة جهداً متضافراً من أجل “تدويل” الرنمينبي من خلال الترويج لإستخدامه كوحدة حسابية، ووسيلة دفع، وتخزين قيمة للبنوك والشركات والحكومات التي تقوم بمعاملات دولية. ومنذ العام 2009، كان تدويل الرنمينبي هدفاً صريحاً للسياسة الصينية. لذلك إحتفلت بكين بإضافة الرنمينبي إلى سلة حقوق السحب الخاصة كدليل على أنها تحقق تقدماً حقيقياً في هذا الاتجاه.
على الرغم من طموحات الصين، لا يزال الدولار الأميركي من دون منازع هو العملة الدولية المهيمنة. ويمثّل الدولار أكثر من 60 فى المئة من إحتياطات النقد الأجنبي التى تحتفظ بها البنوك المركزية فى جميع أنحاء العالم. وتجري نحو 45 في المئة من جميع معاملات سوق الصرف الأجنبي بالدولار. تقريباً كل معاملة في سوق النفط العالمية مُقوَّمة بالدولار. ببساطة، الدولار يسود عالياً. فلماذا تحاول الصين تحدّي هيمنة الدولار، أو حتى محاولة تحويل الرنمينبي إلى عملة عالمية بديلة؟
في كتابيهما الأخيرين، حاول الإقتصاديان إسوار براساد وباولا سوباكشي الرد على هذا السؤال. بذل كلٌّ من المُؤلِّفين جهداً لوضع محاولة تدويل الرنمينبي في سياقه التاريخي. (براساد يذكّر القراء، على سبيل المثال، أن الصين ليست جديدة على العملات: كانت أول بلد في العالم الذي إستخدم النقود الورقية). وكلاهما إستخدم جهد الصين كعدسة حيث عرض من خلالها الصورة الأكبر للإصلاحات الإقتصادية والمالية الجارية في البلاد.
ويحذّر المؤلفان أيضاً من الإدعاءات المُبالَغ فيها. على الرغم من أن بكين عملت بجد على تشجيع الإستخدام الدولي لل”يوان”، إلّا أنه لا ينبغي المبالغة في مدى التقدم الذي أحرزته. وما زالت المطالبات التي تُقاس أو تُقَوَّم بالرنمينبي لا تمثّل سوى جزء ضئيل – حوالي واحد في المئة – من إحتياطات النقد الأجنبي التي تحتفظ بها البنوك المركزية في العالم. وعلى الرغم من أن الشركات تستخدم الآن الرنمينبي لدفع حوالي عشرة في المئة من جميع الصادرات والواردات العالمية، إرتفاعاً من صفر قبل عشر سنين، فإن معظم هذه المدفوعات ينبع من التجارة الصينية المحلية – بما فيها التجارة مع هونغ كونغ، وهي ليست بالضبط بلداً أجنبياً. وفي الوقت عينه، فإن حصة الرنمينبي من حجم التداول في سوق الصرف الأجنبي العالمي لا تتجاوز 2 في المئة، وفقاً لأحدث مسح للبنك الدولي للتسويات، الذي أجري في نيسان (إبريل) 2016. وحسب جمعية الإتصالات المالية بين البنوك العالمية “سويفت”، على الرغم من أن الرنمينبي يحتل المرتبة الخامسة بين العملات الأكثر إستخداماً في المعاملات المالية، فإن المعاملات القائمة على الرنمينبي لا تزال تمثّل فقط 1.86 في المئة من قيمة جميع المدفوعات العالمية.
إذا كانت الصين تريد حقاً أن تُحرّك الطلب وتحقق أكثر من التقدم الرمزي في تدويل الرنمينبي، سيكون عليها أن تتحرك أسرع بكثير بالنسبة إلى مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية والتنظيمية الأوسع نطاقاً. وسيتعيّن عليها أيضاً أن تنظر في إتباع نهج أقل مركزية في صنع السياسات الإقتصادية – وهو إحتمال يبدو أنه لا يجذب كثيراً القيادة الحالية للبلد. كل هذه التغييرات يجب أن تتم في وقت أصبحت فيه البيئة الدولية أكثر غموضاً، وذلك جزئياً بسبب إنتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الصين تمكنت من رفع مستوى وضع الرنمينبي، فإن الطريق إلى مزيد من التقدم يبدو طويلاً وصعباً.

الإعتماد على الدولار

عندما تسأل لماذا تُحاول بكين تحويل الرنمينبي الى عملة عالمية فان الكثيرين فى الصين لديهم إجابة جاهزة: يجب ان يكون لدى دولة من الدرجة الاولى عملة من الدرجة الاولى. ولكن تحت هذه المشاعر القومية تكمن دوافع أخرى أكثر عملية. يرى المسؤولون الصينيون بأن تدويل الرنمينبي هو وسيلة لتحرير أنفسهم من الإعتماد على الدولار. وطالما أن البنوك والشركات الصينية تقوم بمعظم أعمالها عبر الحدود بالدولار، فإنها تواجه خسائر مُحتمَلة في كل مرة يتغير فيها سعر صرف الدولار بالنسبة إلى الرنمينبي. وحتى الآن، كانت السلطات الصينية تدير بشكل كبير سعر الصرف للحدّ من تلك التقلبات. ولكن هذا الأمر لا بدّ أن يتغيّر في المستقبل، حيث أنه مع التطور والإنفتاح المالي تأتي تدفقات أكبر من رؤوس الأموال إلى الداخل والخارج – وتصبح هناك حاجة إلى السماح بتعديل سعر الصرف كمصدٍّ وحاجز ضد آثارها الإقتصادية والمالية.
كما أن الإعتماد على الدولار يُعرّض الصين إلى مخاطر إستراتيجية. وحقيقةَ أن الكثير من المعاملات التجارية والمعاملات المالية يتم تسويتها بالدولار يعطي الحكومة الأميركية نفوذاً على نظام الدفع الدولي. بعد غزو روسيا لشبه جزيرة القرم وضمّها في العام 2014، شاهد المسؤولون الصينيون بخيبة فرض عقوبات مالية من قبل الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وعدد من أعضاء منظمة الحلف الأطلسي على روسيا، من بين أمور أخرى، الأمر الذي جعل من المستحيل إستخدام بطاقات الإئتمان الصادرة عن البنوك الروسية خارج روسيا. وكان هذا التدبير قابلاً للإنفاذ فقط لأن هذه البطاقات تعتمد على شبكات الدفع بالدولار التي تديرها شركات أميركية مثل “فيزا” و”ماستر كارد” و”أميركان أكسبرس” … كما تمكنت الولايات المتحدة وحلفاؤها من تهديد روسيا بإستبعادها من شبكة التحويلات الدولية “سويفت”، وهي الشبكة الإلكترونية التي تقوم بتسوية الغالبية العظمى من المعاملات المالية عبر الحدود، والتي تتم أساساً بالدولار. وهذا ما أعطى الصين وقفة وعزّز تصميمها على تطوير نظام دفع دولي بديل لا يعتمد على الدولار أو عرضة للإضطراب من الولايات المتحدة.
وأخيراً، يرى البعض في الصين، بمن فيهم مسؤولون في بنك الشعب الصيني، تدويل الرنمينبي كوسيلة لتشجيع الإصلاح الإقتصادي والمالي الأوسع نطاقاً. ولن يحتضن الأجانب الرنمينبي إلا إذا إستطاعوا شراءه وبيعه بحرية. ومن الناحية العملية، يعني ذلك أنه يجب أن يكونوا قادرين على الإنخراط في معاملات مالية في الصين نفسها، حيث تقع الغالبية العظمى من الأصول المالية المُقوَّمة بالرنمينبي. ومن ثم يتعين على بكين رفع القيود التى فرضتها منذ فترة طويلة على الأجانب (والمواطنين الصينيين) الذين يرغبون فى إجراء معاملات مالية عبر الحدود في الصين.

تحت الضغط

ومن شأن إسترخاء الضوابط على المعاملات المالية أن يسمح بزيادة تدفق رؤوس الأموال من وإلى الصين. ولمواجهة هذا التقلب الكبير، ستحتاج بكين إلى إستكمال إصلاحات مالية إضافية. وسيتعيّن على الحكومة رفع مستوى أنظمتها الرقابية والتنظيمية لمنع المصارف وغيرها من الشركات المالية من الإقتراض بشكل مفرط ويصبح أكثر من اللازم. وسيترتّب عليها تعزيز حوكمة الشركات لمنع الشركات الصينية من تكبّد ديون كثيرة قصيرة الأجل بالعملة الأجنبية. وستحتاج بكين إلى تحرير أسعار الفائدة بالكامل للقضاء على الإختلافات الإصطناعية بين المعدلات المحلية والخارجية، مما قد يشجّع على هروب رؤوس الأموال. وسيحتاج بنك الشعب الصيني إلى تعديل سياسته النقدية بحرية أكبر إستجابة للتغيّرات في إتجاه تدفقات رؤوس الأموال.
وفى جهوده لتدويل الرنمينبي، إتخذ بنك الشعب الصيني، وسلطات أخرى، خطوات فعلية لتعزيز سهولة وصول المستثمرين الإجانب الى الاسواق المالية الصينية. وقد أدّت هذه التدابير إلى زيادة الضغط من أجل إجراء إصلاحات أخرى، مثل الإصلاحات المتعلقة بالهيكل التنظيمي والحواجز المؤسسية. ولكن التاريخ يفيد بأن إستخدام تحرير حساب رأس المال لإجبار سرعة الإصلاح المالي هو إستراتيجية محفوفة بالمخاطر. وإذا لم تتبع تدابير أخرى بسرعة، فإن إسترخاء ضوابط رأس المال قد يؤدي إلى الإفراط في الإقتراض، والإفراط في المخاطرة، وفي أسوأ الحالات، أزمة مالية. ولا يحتاج الزعماء الصينيون إلّا تذكّر الأزمة المالية الآسيوية في الفترة 1997-1998، التي عكست على وجه التحديد تلك السلسلة من الأحداث.
هناك عدد من العوامل تفسّر وتوَضِّح وتيرة الإصلاح المتفاوتة حتى الآن. وعلى الرغم من رغبة بعض زعماء الحزب الشيوعي في التحرّك بسرعة، إلا أنهم يواجهون مقاومة من المصالح الراسخة، مثل المؤسسات المملوكة للدولة التي تستفيد من الإئتمان المدعوم. ويركّز براساد وسوباشي على التوتر القائم بين التحرير المالي ونموذج النمو في الصين. إعتمدت السلطات فى بكين منذ فترة طويلة على البنوك المملوكة للدولة لتوجيه الإئتمان نحو الصناعات والشركات الأكثر تقدماً تكنولوجياً. وهذا النموذج من الإدارة الإقتصادية سيقع تحت الضغط عندما يقرر الحزب التقليل من دوره المباشر في تحديد أسعار الفائدة والتراجع عن سيطرته الصارمة على القطاع المصرفي. وكما تقول سوباكشي، سيتعيّن على واضعي السياسات في الصين أن “يحددوا طريقةً لفتح الأسواق المالية والقطاع المصرفي مع الحفاظ على ’إشتراكية ذات خصائص صينية’ الفريدة من نوعها، حيث يتعايش التخطيط الإقتصادي وسيطرة الدولة مع الأسواق والإستثمارات الأجنبية والملكية الخاصة والمبادرة الفردية”.
البديل سيكون نظاماً للمصارف الخاصة وأسواق رأس المال القادر على تخصيص إئتمانات أكثر كفاءة. ولكن هذه المؤسسات تستغرق وقتاً طويلاً لتطويرها؛ وتصف سوباشي هذا الوضع، بشكل مناسب في السياق الصيني، ب”المسيرة الطويلة”. أسواق الأسهم الصغيرة نسبياً في الصين لا تزال عرضة للتأرجح العنيف، والتي لا يمكن التنبؤ بها، والمسؤولون متردّدون في تكليفها بمهمة تخصيص الإئتمان. ومثل هذا التقلب يجعل الأجانب أيضاً يشعرون بالتوتر والقلق بشأن الإحتفاظ بالأوراق المالية المقوَّمة بالرنمينبي، حيث أن أسعار تلك الأوراق المالية يمكن أن تتغير بمبالغ كبيرة عندما يكون المستثمرون في الولايات المتحدة وأوروبا نائمين.
تُسلِّط سوباكشي الضوء على نهج الصين ذي الشقين المميّز للتغلب على هذه العقبات أمام تدويل العملة. ويشمل الشق الأول تشجيع الشركات المحلية والأجنبية على إستخدام الرنمينبي في المعاملات والتسويات التجارية، على أمل أن يتطوّر إستخدام العملة في المعاملات المالية ويصبح عضوياً. وبالنسبة إلى بكين، يمثّل هذا النهج مساراً منطقياً والأسهل: فالتسويات التجارية هي أقل خطورة من المعاملات المالية البحتة لأن البضائع التي يجري تداولها هي بمثابة ضمانات، وتُسدَّد القروض بمجرد وصول البضائع العابرة. وحالما تحصل الشركات الأجنبية على مدفوعات بالرنمينبي، فانها ستقوم بوضع المال كودائع لدى البنوك المحلية، حيث تستخدمها للعمل فى الاسواق المالية الصينية. وبهذه الطريقة، يؤدي تشجيع إستخدام الرنمينبي في التسويات التجارية بطبيعة الحال إلى إستخدامه في الإستثمار المالي.
في الواقع، هناك سابقة مهمة لهذا النهج. لقد إتبعت الولايات المتحدة إستراتيجية مماثلة عندما سعى مجلس الإحتياطي الفيديرالي (البنك المركزي الأميركي) إلى تدويل الدولار بعد العام 1914. ولكن ليست هناك سابقة للشق الثاني من إستراتيجية الصين: الإعتماد على الأسواق الخارجية لإنماء وتطوير عملاء ماليين للرنمينبي. من جهتها بدأت المراكز المالية من لندن الى سنغافورة تشجيع التجارة المباشرة لعملات بلدانها مقابل الرنمينبي. وبالنسبة إلى كل مركز مالي أجنبي، فقد عيّنت الصين واحداً مما يسمى البنوك الأربعة الكبرى ليكون بمثابة بنك مقاصة رسمي. وفي الوقت نفسه، تفاوض بنك الشعب الصيني بشأن ترتيبات تبادل العملات التي تمنح المصارف المركزية الأجنبية خط إئتمان بالرنمينبي. وفي غياب خط الإئتمان هذا، لم يتمكن بنك إنكلترا، على سبيل المثال، من تقديم قرض طارئ بالرنمينبي بسهولة إلى عميل في لندن، لأن البنك المركزي البريطاني لا يستطيع طباعة العملة الصينية. ولكن لأن بنك إنكلترا لديه إتفاق مقايضة مع بنك الشعب الصيني، فإنه يمكنه أن يكون بمثابة “مُقرض الملاذ الأخير” بالرنمينبي. وتأمل بكين مع مرور الوقت أن هذه الترتيبات سوف تجعل المنظمين الأجانب أقل قلقاً بشأن السماح لمصارفهم والشركات الوطنية للقيام بأعمال تجارية بالرنمينبي.
الواقع أنه ما زال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الإستراتيجية المحدودة ستولّد قدراً كبيراً من الأعمال التجارية الدولية. في نهاية المطاف، إذا كانت الصين تريد المنافسة في اللعبة المالية العالمية، سيتعيّن عليها السماح للكيانات الخارجية الإستثمار بحرية في البر الرئيسي. ولكن قبل أن تتمكن من القيام بذلك بأمان، ستحتاج بكين إلى تحسين الرقابة المالية، وتعزيز حوكمة الشركات، وبصورة أعم، إحراز مزيد من التقدم في الإصلاح الإقتصادي والهيكلي.

مأوى من العاصفة

مع ذلك، فإن التقدم في الإصلاح الإقتصادي والهيكلي وحده لن يسمح للصين بأن تتحدّى بشكل حقيقي سيادة الدولار. فالعملة الأميركية ليست فقط العملة الإحتياطية الدولية الرائدة، بل هي أيضاً ملاذٌ آمن، يهرع إليها المستثمرون الأجانب خلال فترات الإضطراب المالي – حتى عندما تكون الولايات المتحدة هي نفسها مصدر الإضطراب، كما كان الحال في أزمة 2008. ويقول براساد: “إن الإيمان الشديد بأن الحكومة الفيديرالية الأميركية ستحترم إلتزاماتها بالنسبة إلى االديون جعل سنداتها السيادية الأداة المفضلة للمستثمرين القلقين”. وهناك عملات أخرى، مثل الفرنك السويسري، تعمل أيضاً كملاذ آمن، على نطاق محدود. ولكن الرنمينبي لا يلعب هذا الدور. والسؤال هو لماذا – وهل هذا الأمر سيتغير؟
لكي تكون البلاد ملاذاً آمناً، ينبغي على عملتها أن تكون متداولة في الأسواق العميقة والسائلة. خلال أزمة، لا يُقدِّر أو يُثمِّن المستثمرون أي شيء أكثر من السيولة. وتُعَدّ سندات الخزينة وسوق السندات في الولايات المتحدة أكبر سوق مالية واحدة وأكثرها سيولة في العالم. وهذه ميزة بأن سوق الأوراق المالية المُقوَّمة بالرنمينبي لم تبدأ بالإقتراب.
وعلاوة على ذلك، لكي تعمل العملة كملاذ آمن، فإن المستثمرين يحتاجون إلى الشعور بالثقة من أنه لن تكون هناك تغييرات لا يمكن التنبؤ بها في قواعد اللعبة. في البلد الذي يسيطر على تلك العملة، يجب أن يكون البنك المركزي والهيئات التنظيمية المالية مَعزولَين عن السياسة؛ ينبغي أن يكونا مستقلَّين قانونياً ومالياً. ويجب أن يكون إنفاذ العقود منصفاً ومعاملة المقيمين والمستثمرين الأجانب على قدم المساواة. وأخيراً، يجب أن يتسم نظام الحكم بمراقبات وتوازنات مؤسسية في سلطة صنع القرار التعسفي للسلطة التنفيذية.
من الواضح أن هذه الأشياء ليست من خصائص النظام السياسي الصيني الحالي. وإذا كان هناك أي شيء، فإن الرئيس شي جين بينغ والمكتب السياسي يتمتعان بقدر كبير من السلطة المركزية، وذلك في جزء منه لمحاولة وقف التباطؤ التدريجي الأخير في معدل النمو الإقتصادي في الصين. إن توطيد الحزب لسلطته وإلتزامه المستمر بالحفاظ على معدل نمو سنوي يزيد على ستة في المئة يتعارض بشكل أساسي مع هدف تدويل الرنمينبي.
ومع ذلك، فإن براساد وسوباكشي متفائلان بحذر. وتفاؤلهما وحذرهما في محلهما. إن الصين تفتخر بالفعل بأحد أكبر الإقتصادات في العالم و هي أكبر مُصدّر في العالم. مع مرور الوقت، سوف تطور أحد أكبر الأسواق المالية في العالم. ولكن التطور المالي يستغرق وقتاً طويلاً. ولأن الإصلاح المالي، ومعه أيضاً الإصلاح السياسي، شرط أساسي لنجاح تدويل الرنمينبي، فإن هناك شكوكاً كبيرة بالنسبة إلى هذا الموضوع.
أنهى براساد وسوباكشي كتابيهما قبل حدثين مهمين وقعا أخيراً. أولاً، في الأشهر القليلة الماضية، بدأت السلطات الصينية تتراجع عن بعض تدابير التحرير. فعلى سبيل المثال، فقد فرضت على الشركات الصينية قيوداً جديدة بالنسبة إلى الإستثمار الأجنبي المباشر، وبدأت تشترط على الكيانات الصينية الحصول على موافقة رسمية قبل القيام بمعاملات أخرى عبر الحدود. وقد فُرِضت هذه القيود رداً على ضعف سعر الصرف فى الصين الذى فرض ضغطاً على بنك الشعب الصيني لرفع أسعار الفائدة وسحب السيولة من الأسواق المالية الصينية من أجل دعم العملة. بيد أن إتخاذ هذه الخطوات من شأنه أن يُضعف الإنفاق المحلي ويزيد من خطر أن تفوِّت الصين هدفها الرسمي للنمو. لذا، بدلاً من ذلك، شددت السلطات ضوابط العملة. وهذا دليل أكثر على أنه عندما يُحشَرون ويواجهون ضغوطاً ، فإن الزعماء الصينيين سيواصلون إعطاء الأولوية للأهداف المحلية أكثر من عملية تدويل الرنمينبي.
وقد نُشر الكتابان أيضاً قبل إنتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة. وإذا تطورت التوترات والنزاعات التجارية بين بكين وواشنطن في ظل الإدارة الأميركية الجديدة فان الأسواق المالية بشكل عام، وأسواق النقد الأجنبي على وجه الخصوص، ستزداد تقلباً. ومن شأن زيادة التقلب في سعر صرف الرنمينبي أن يجعله أقل جاذبية للمستثمرين الدوليين لإستخدام العملة. وفي عالم يغلب عليه عدم اليقين، فإن وضع الدولار الأميركي كملاذ آمن سيزداد جاذبية.
وبدلاً من ذلك، قد ينظر المستثمرون بإيجابية أكثر إلى الرنمينبي إذا قامت إدارة ترامب بإجراء تغييرات في السياسة الأميركية التي تقوّض الإيمان بإلتزام الخزانة الأميركية بالوفاء بإلتزاماتها. وخلال حملته الإنتخابية، أعلن ترامب انه قد يسعى الى “اعادة التفاوض” على الديون الأميركية. وإقترح أيضاً تخفيضات ضريبية كبيرة غير مُموَّلة؛ فإذا فشلت هذه الخطوات في تعزيز الإنتاجية وحفز النمو الاقتصادي، فإنه يمكنها أن تجعل في نهاية المطاف إستدامة إلتزامات وزارة الخزانة الأميركية في موضع الشك. في هذه الحالة، فإن الرنمينبي – والصين – سيكون المستفيد الواضح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى