هل تستطيع فرنسا إيقاف المدّ الشعبوي؟

يخيّم شبح فوز اليمين المتطرف في سباق الإليزيه، المقرر إجراء دورته الأولى في 23 نيسان(إبريل) المقبل، على الساحة السياسية الفرنسية. ويمثل هذا المعسكر السياسي في السباق الرئاسي مارين لوبان رئيسة حزب “الجبهة الوطنية”.
وتتخوّف الطبقة السياسية التقليدية من حدوث سيناريو مشابه لـ2002 عندما بلغ والدها جان ماري لوبان الدور الثاني من الإنتخابات الرئاسية، وإضطرت باقي القوى السياسية يميناً ويساراً للإصطفاف خلف المرشح اليميني وقتها جاك شيراك، في إطار ما يُعرف بـ”الميثاق الجمهوري”.

إيمانويل ماكرون: أسهمه عالية ولكن...
إيمانويل ماكرون: أسهمه عالية ولكن…

باريس – ميشال مظلوم

توفّر الإنتخابات الرئاسية الفرنسية المُقبلة عرضاً تمهيدياً عن السياسة المضطربة في عصرنا. إننا نشهد إنهيار الإنقسام التقليدي بين اليسار واليمين، وكذلك الأطراف المرتبطة بهما. في مكانهما، تظهر معارضة جديدة بين الشعبوية القومية من جهة والتكنوقراطية الليبرالية من جهة أخرى. وعلى المحك هو نموذج المجتمع ذاته – والديموقراطية – الذي كان مهيمناً في الغرب منذ نهاية الحرب الباردة.
إتّسمت السياسة الفرنسية في العقود القليلة الماضية بالتناوب، المستقر نسبياً، على السلطة بين حزب يمين الوسط (الذي أعيدت تسميته أخيراً “الجمهوريون”)، الذي يؤمن بتحرير السوق والقيم الإجتماعية التقليدية، ومنافسه الذي يمثل يسار الوسط (الحزب الاشتراكي)، والذي يؤمن بالمزيد من الرعاية الإجتماعية وإعادة التوزيع الإقتصادي. وفي حين إختلف هذان الطرفان حول درجة تدخل الدولة في الإقتصاد، فقد كان هناك إجماع أساسي على نموذج دولة الرفاهية فضلاً عن إلتزام فرنسا بالتكامل الأوروبي والتعددية في الشؤون الدولية.
اليوم، هذه الأحزاب ليست سوى ظلال لذواتها السابقة. في مواجهة تدني شعبيته بشكل تاريخي، قرر الرئيس الإشتراكي الحالي، فرانسوا هولاند، عدم السعي الى إعادة إنتخابه. ورئيس وزرائه السابق، مانويل فالس، خسر بدوره في الإنتخابات التمهيدية ضد المرشح الخارجي بينوا هامون، الذي نجح إقتراحه الذي يقول ب”دخل أساسي للجميع” في حشد الدعم من أقصى اليسار في قاعدة الحزب، ولكن يبدو أن فرصته ضئيلة ليؤخذ على محمل الجد من قبل الناخبين بشكل عام.
على الجانب الجمهوري، فاز في الإنتخابات التمهيدية “خارجي مبدئي” آخر، فرانسوا فيون، الذي إقترح أيضاً نسخة متطرفة لمنصة الحزب التقليدية. وقد أثبتت وصفته ل”العلاج بالصدمة” لتحرير السوق، إلى جانب وجود تيار ديني محافظ متباهي، بأنها كانت جذابة لغالبية قاعدة الحزب، ولكن ينظر إليها المراقبون على أنها عقبة أمام الحصول على دعم الناخبين الأكثر وسطية المطلوب للفوز في الإنتخابات العامة.
علاوة على ذلك، فقد عانت أخيراً حملة فيون مزاعم عن أنه وظّف زوجته كمساعدة وهمية في أثناء عمله كعضو في البرلمان. وبتأكيده من جديد على إنتمائه إلى طبقة سياسية يُنظَر إليها على نطاق واسع على أنها فاسدة وذاتية المرجع، فإن هذه الفضيحة قد تشكل ضربة قاضية لحملته الإنتخابية. مع ذلك، ليس واضحاً من الذي يمكن أن يحل محله الآن، بعد أن تم إجراء الإنتخابات التمهيدية.
وفي كلتا الحالتين، فإنه من اللافت أن التوقعات تفيد أن قادة الحزبين الذين سيطروا على السياسة الفرنسية حتى الآن سيفشلون وسيتم إستبعادهم في الجولة الثانية من الإنتخابات الرئاسية. حتى إذا أُخِذا معاً، فالإقتراع للحزبين كان أقل من 35 في المئة من الناخبين في الجولة الأولى. إن الصراع الحقيقي على السلطة هو في مكان آخر.
المنافس الرئيسي الأول هي زعيمة “الجبهة الوطنية”، مارين لوبان، التي قادت بإستمرار إستطلاعات الرأي خلال الأشهر القليلة الماضية. وفي أعقاب الإنتخابات الرئاسية الأميركية، شبّه العديد من المُعلِّقين خطابها المناهض للمؤسسة الرسمية الحالية والمؤيد للحماية الإجتماعية والإقتصادية بذلك الذي أطلقه دونالد ترامب: مقارنة إدّعتها لنفسها على أمل تحويلها إلى ميزة إنتخابية. أقل ملاحظة، رغم ذلك، هو الطريق الذي هزت به منصتها السياسية الفئات والفوارق السياسية التقليدية.
عادة ما توصف “الجبهة الوطنية” بحزب يميني متطرف. ولكن في حين أن قوميتها الإقتصادية وخطابها المعادي للمهاجرين يقترضان بالفعل من الخطاب اليميني التقليدي، فإن لوبان قد برزت أيضاً كمرشح يدافع بشكل أساسي عن دولة الرفاه ومصالح الطبقة العاملة. على سبيل المثال، فقد إقترحت فرض ضريبة على الواردات التي ستُستخدَم لتمويل دعم نقدي مباشر لأولئك المواطنين الموجودين في الطبقات ذات الدخل الأكثر إنخفاضاً، ووعدت أيضاً بإطلاق مشروع ضخم ل”إعادة التصنيع” إلى الإقتصاد الوطني. والذي ربما لا يثير الدهشة، هو أن الدعم الأكثر تماسكاً لها يأتي من المناطق التي كان يسيطر عليها سابقاً الحزب الشيوعي.
المنافس الرئيسي الآخر هو إيمانويل ماكرون، الذي كان سابقاً مصرفياً في بنك روتشيلد. خدم لفترة وجيزة (2012 -2014) مستشاراً للرئيس فرانسوا هولاند قبل أن يعيّنه هذا الأخير في منصب وزير الإقتصاد في العام 2014 حيث إستقال بعدها في آب (أغسطس) 2016 لتأسيس حركته الخاصة التي تُدعى “إلى الأمام” (En Marche)، والتي وضع شعارها المُعلَن بأنها “لا يسارية ولا يمينية” بل “ليبرالية بشكل مضاعف” في الشؤون الإجتماعية والإقتصادية على حد سواء.
إن شباب ماكرون وديناميته، بالإضافة إلى موقفه المؤيد لأوروبا وغير المناهض للهجرة، جعلته بسرعة محبوباً من التيار الرئيسي في البلاد، فضلاً عن الصحافة الدولية. لكن مقترحات ماكرون السياسية كانت غامضة بشكل متفرد، ومن دون وجود آلة حزبية تدعمه، فإنه من غير الواضح من أين سيأتي الدعم له داخل الهيئات التشريعية إذا نجح وفاز بالرئاسة.
حتى الآن، كان الشيء الأكثر لفتاً للإنتباه حول ترشّح ماكرون هو قدرته على الجمع بطريقة أو بأخرى بين نداءٍ مناهض للمؤسسة الرسمية ناجم عن جديته وشبابه مع أوراق إعتماده التكنوقراطية الآتية من خبرته كمسؤول مصرفي رفيع المستوى. ومع ذلك، يبقى السؤال ما إذا كان بإمكانه متابعة الترشح ك”خارجي” بينما يدعو أساساً إلى إستمرار الوضع الراهن.
الواقع أن المواجهة بين لوبان وماكرون في الجولة الثانية سوف تسجّل عصراً جديداً في السياسات الفرنسية والأوروبية. وعلى الرغم من الإختلافات الملحوظة بينهما، فإن هناك أيضاً بعض نقاط التقارب البارزة. أولاً وقبل كل شيء هو أن كلاهما يدّعي أنه “ليس يسارياً وليس يمينياً”: وهو شعار إستخدمه في الواقع صراحة كلٌّ منهما على حد سواء للتأكيد عن عدم إنتمائه إلى الطبقة السياسية القائمة (على الرغم من الحقائق التي تفيد بأن لوبان كانت سياسية محترفة طوال حياتها الراشدة، فيما كان ماكرون عضواً بارزاً في الحكومة الحالية).
ثانياً، إن كلاً من لوبان وماكرون يدّعي بأنه يتمتع بعلاقة مباشرة مع الناخبين، حيث أن المؤسسات التقليدية للوساطة السياسية بين الناخبين وممثليهم — أي الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام – قد قُدِّمت بأنها قديمة وباطلة وقد عفا عليها الزمن. وينعكس هذا في حقيقةٍ أن كلاهما أكثر أو أقل غير مُحدَّد بآلاته السياسية. لقد ورثت مارين لوبان قيادة حزبها من والدها من خلال منطق الوراثة الأسرية والذي يُحضِّر الآن لتنصيب إبنة أخيها كخليفتها الرئيسية. من جهته خلق ماكرون حركته الخاصة من خلال الكاريزما التي يتمتع بها (وشبكة أعمال). في كلتا الحالتين لا يمكن حتى أن تُطرَح مسألة “الديموقراطية الداخلية” حقاً.
وأخيراً، ربما العنصر الأكثر بروزاً من التقارب بين لوبان وماكرون يتمثل بالطريقة التي حاولا فيها تسمية الإنقسام السياسي الجديد الذي سيحل محل اليسار واليمين. في إطلاق حملتها الإنتخابية يوم الأحد (في 5 /01/2017) في مدينة ليون، إدّعت لوبان أن الصراع السياسي الرئيسي في المستقبل سيكون بين أنصار “عولمة بلا جذور” من جهة و”الوطنيين” من جهة أخرى. وفي مهرجان حاشد في المدينة نفسها جرى في الوقت ذاته، أوضح ماكرون بأن حركة “إلى الأمام” تؤمن ب”التقدم” ضد “المحافظة” و”رد الفعل”.
ما تعنيه لوبان ب”العولمة بلا جذور” هو أكثر أو أقل مما يعنيه ماكرون ب”التقدم”: شكل من أشكال الليبرالية الإجتماعية والاقتصادية الذي يسعى إلى زيادة الإنفتاح في المجتمع: الإنفتاح على التجارة، والهجرة، وكذلك على تعدد المعايير الأخلاقية والدينية المختلفة. على العكس من ذلك، فما تعنيه لوبان ب”الوطنية” ليس بعيداً مما يعنيه ماكرون ب”المحافظة” و”رد فعل”: شكل من أشكال الحماية الإجتماعية والإقتصادية الذي يُعتبر “الخارج” بأنه يشكل تهديداً للصناعة المحلية، وبالتالي فرص العمل، ولكن أيضاً للهوية الوطنية، والدين، والثقافة.
ويبرز على المحك هنا في هذه المواجهة النموذج الإجتماعي والاقتصادي الذي كان مهيمناً في الغرب منذ نهاية الحرب الباردة، والمبني تحديداً على المقامرة بأن فوائد الإنفتاح يمكن أن تعوِّض عن فقدان الآليات التي أنشئت من الحماية الإجتماعية والاقتصادية. وكما أظهرت أخيراً أستاذة العلوم السياسية هانز بيتر كريزي، مع ذلك، فإن هذه المقامرة — مقامرة العولمة — أنتجت معاً “فائزين” و”خاسرين”.
لذلك هناك صراع ملموس من المصالح الكامنة وراء النزاع المعاصر بين الشعبوية القومية من جهة والتكنوقراطية الليبرالية من جهة أخرى. ومن أجل منع هذا الأمر من التحوّل إلى لعبة محصلتها صفر والتي من شأنها أن تُنهك النسيج الديموقراطي في المجتمعات الغربية، فإن هناك ضرورة ملحّة لإيجاد طرق جديدة لرأب الصدع الإجتماعي الذي أنتجته العولمة إما من طريق إنفتاح أكثر شمولاً، أو حماية أقل حصرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى