أعمى يكشف عَمَى المجتمع اللبناني في فيلم “ربيع”

حظي فيلم “ربيع” للمخرج اللبناني فاتشى بولغوريجيان بإشادات وإعجاب الجمهور والصحافة العالمية عندما عُرض في قسم “أسبوع النقاد” ضمن فعاليات الدورة 69 لمهرجان كان السينمائي الدولي، حيث نال صناع الفيلم موجات حارة من التصفيق والهتاف بمجرد انتهاء عرض الفيلم وصعود مخرجه وأبطاله على خشبة المسرح لتحية الجمهور. يُذكر أن الفيلم هو من بطولة جوليا قصار، وبركات جبور، وميشال أضباشي، ونسيم خضر.

صناع وأبطال فيلم "ربيع": كشفوا عمى المجتمع اللبناني
صناع وأبطال فيلم “ربيع”: كشفوا عمى المجتمع اللبناني

بقلم جوزيف فهيم

صُوِّر عدد كبير من الأفلام عن الحرب الأهلية في لبنان التي شكّلت الموضوع المهيمن على السينما اللبنانية على مدى السنوات الأربعين الماضية، ولكن في فيلمه الاول “ربيع” أراد المخرج فاتشي بولغوريجيان أن يروي قصة مختلفة، ومعالجة إرث خلّفته الحرب الأهلية.
الواقع أن الأفلام الروائية الخيالية والوثائقية التي صُوِّرَت في أثناء وبعد الحرب وضعت السينما اللبنانية على خريطة السينما العالمية. “الحروب الصغيرة” (1982) و”خارج الحياة” (1991) لمارون بغدادي؛ و”بيروت الغربية” (1998) لزياد دويري، و”أين نذهب الآن” (2011) لنادين لبكي… كلها عالجت الجوانب المتنوعة للحرب وما أعقبها – إرتفاع الطائفية، وتغيير البنية الإجتماعية، وإظهار الرجولة من خلال العنف.
إن غير الدقيق تماماً والمقلق هي الأفلام الوثائقية الأخيرة: “القطاع صفر” (2011) لنديم مشلاوي، و”ليالٍ بلا نوم” (2012) لإليان الراهب، جنباً إلى جنب مع الفيلم القصير “موج 98” (2015) لإيلي داغر الذي حاز على السعفة الذهبية في مهرجان “كان” في فئته. كل واحد من هذه الأفلام، بطريقة أو بأخرى، كان محاولة لدمج الحرب مع نسيج السرد اللبناني المعاصر؛ ليكون بمثابة جسر بين الماضي الدموي في لبنان وحاضره غير المؤكد.
إن “ربيع”، الذي يُعتبَر أبرز فيلم لبناني لهذا العام وواحداً من أبرع الإنتاجات العربية في العام 2016، هو دراسة دقيقة مؤثرة ولافتة حول فقدان الذاكرة الجماعية، وعصمة الذاكرة، وإستحالة الحقيقة. الموسيقي الأعمى بركات جبور الذي يلعب دور “ربيع”، المغني في فرقة موسيقية عربية الذي، عندما يتقدم بطلب للحصول على جواز سفر، يكتشف أن شهادة ميلاده هي مُزوَّرة. عندها يبدأ ربيع في رحلة وجودية في المناطق الريفية في لبنان للكشف عن هويته الحقيقية، وخلال العملية يكتشف أُمّةً تخشى جداً الإحتفاظ بمرآة لماضيها.
في جيل بولغوريجيان، ليس هناك شخص واحد لم يتأثر من جراء الحرب.
“عشرون عاماً منذ نهاية الحرب، ما زلنا نكافح من أجل جعل هذا البلد يقف على قدميه”، قال. “وبعد إنتهاء الحرب، كان الجميع يأملون بالعودة إلى العيش في لبنان ستينات القرن الفائت الذي كنا كلنا نحلم به وسمعنا عنه، ولكن ذلك لم يحصل. لقد واصلت ديناميكية الحرب مسيرتها من دون عنف مادي، وغالباً ما إندلعت في عنف جسدي “، مضيفاً.
الحرب لم تنتهِ حقاً، لكنها أخذت شكلاً آخر. لا تزال الإنقسامات موجودة، قال بولغوريجيان، ولكن في السينما غالباً ما يتم تخفيضها إلى القضايا الدينية أو الإيديولوجية. على عكس الأفلام الدرامية السابقة عن الحرب الأهلية، فهو يطمس الحدود الطائفية، رافضاً تحديد الشخصيات حسب دينهم أو طائفتهم لتوضيح تواطؤ البلد بأكمله.
“في الواقع، فإن الوضع أكثر تعقيداً بكثير، وهذا ما دفعني لعمل هذا الفيلم: للخوض في التأثير السيئ المتعدد الطبقات للحرب على المجتمع اللبناني الحالي؛ وللبحث عن بعض الوضوح، لفهم هذا البلد بشكل أفضل”، يقول.
إن العمى هو الموضوع الرئيسي في الفيلم، ويخدم على حد سواء باعتباره المحرّك للسرد وكناية لحالة الأمة بأكملها.
“أردت أن أرى كيف أن شخصاً، لا يمكنه أن يرى، يستطيع أن يحل هذه المشكلة في بلد بيروقراطي، لأن قصصاً مثل ربيع وقعت من قبل”، قال بولغوريجيان.
“ربيع هو أعمى جسدياً، لكنه محاط بأناس عميان نفسياً وعاطفياً وتاريخياً. كلاهما يشكّل أزمة وجودية؛ أردت أن أحرّضهما ضد بعضهما ونرى ما سيحدث. هذه هي الطريقة التي جاءت فيها القصة”، متابعاً.
دور جبور كان مصادفة سعيدة، والعلاقة التي طوّرها مع بولغوريجيان رسمت وشكّلت جوانب مختلفة من الفيلم.
لقد عثر بولغوريجيان والموسيقية المشرفة على موسيقى الفيلم، سينتيا زافين، على مجموعة من الموسيقيين المكفوفين الذين كانوا يعزفون ويرتّلون في الكنيسة. وهناك سمعا رجلاً يرتّل بصوت قوي تراتيل مسيحية، لكنه بدا وكأنه مؤذّن. يومها إقترب بولغوريان وزافين من جبور وعرضا عليه الدور وكان سريع الإجابة وحريصاً للإشتراك في الفيلم.
شعر بولغوريجيان أنه من المهم أن يسند الدور إلى شخص أعمى وليس إلى شخص يتظاهر بأنه أعمى. لقد أراد مع مصوره السينمائي، جيمي لي فيلان، تجنّب تصوير العمى في الطرق المبتذلة المعتمدة في كثير من الأحيان في السينما – ظلام وخارج التركيز، كما لو أنه يتظاهر بأنه يعرف ما يشعر به الأعمى.
“لا أريد أن أدّعي أنني أعمى لأنني لا أعرف كيف أن أكون أعمى”، قال بولغوريجيان. “لم أكن أريد المبالغة في الأسلوب، أردت أن أنقل الإحساس والشعور في وجود شخص أعمى والتركيز فقط على القصة”، متابعاً.
جبور هو خبير في الموسيقى العربية، ويجيد العزف على العديد من الآلات. أصلاً كان الفيلم سيعتمد على موسيقى كورال غربية، لكن بولغوريجيان قرر دمج مواهب جبور، حيث إختارا الأغاني ومختلف عناصر القصة معاً.
“لقد كان ذلك منطقياً وذا معنى؛ الفيلم يدور حول الأرض وأردت أن تكون الموسيقى من الأرض”، قال بولغوريجيان. “أردت أن تكون الموسيقى إحباطاً للسرد؛ هناك سرد عاطفي، ينعكس في الأغاني، حتى أنه يتغير على مدار الفيلم. إن الأغنية الإفتتاحية، “إبعتلي جواب”، تبدو بريئة في البداية، ولكن بحلول النهاية، يتم تحويل الأغنية إلى صرخة مساعدة، صرخة من أجل جواب”، مضيفاً.
بدورها تبدو المناظر الطبيعية الجميلة والهادئة في الفيلم على النقيض من بشاعة الجرائم التي إرتُكبت؛ خلف الجمال السطحي هناك حقيقة عنيفة لا أحد إستطاع مواجهتها حتى الآن.
“لبنان ليس فقط بيروت، والناس الذين يعيشون في بيروت يأتون من كل مكان، ويحملون إلى المدينة قيمهم وتقاليدهم”، أضاف بولغوريجيان. “أردت أن أستكشف أصول هذه القيم، لإظهار المناظر الطبيعية التي نادراً ما تُشاهَد في السينما اللبنانية، لأن هذا الفيلم هو عن البلد، وليس عن المدينة”، مختتماً.
سوف يُعرَض “ربيع” للمرة الأولى عربياً في الشهر المقبل في مهرجان دبي السنمائي ويتم عرضه في الصالات اللبنانية في آذار (مارس) المقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى