العراق: سياسة صندوق النقد الدولي لإصلاح النظام المُختَل مُعلّقة على أسعار النفط!

تحاول الحكومة العراقية إيجاد التمويل اللازم لتغطية نفقاتها وعجز موازنتها، وقد توصلت أخيراً إلى الحصول على قرض مشروط من صندوق النقد الدولي قد يؤدي بها إلى مشاكل لا تُحمَد عقباها.

حكومة حيدر العبادي: هل تستطيع تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي؟
حكومة حيدر العبادي: هل تستطيع تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي؟

بغداد – علي الجوري

أعلن صندوق النقد الدولي في تموز (يوليو) أنه وافق على منح قرض للعراق مدته 3 سنوات تبلغ قيمته 5.36 مليارات دولار في إطار تسهيل الترتيبات الإحتياطية، التي قال انها تُركّز على “تنفيذ سياسات إقتصادية ومالية لمساعدة البلاد على مواجهة إنخفاض أسعار النفط وضمان إستدامة الديون”. والمساعدة المالية الموعودة إشترطت – بين أشياء أخرى – على تسوية بغداد لجميع الديون المتوجِّبة عليها لشركات النفط العالمية الكبرى من دون إضافة ديون جديدة. ولتلبية هذا الشرط، فإن هذا الأمر يتطلب من العراق تخصيص جزء كبير من صادراته النفطية لدفع شركات النفط العالمية على حساب إيرادات الخزينة. في هذا النظام السياسي المُختل الحالي في العراق والمساءلة المُنعدمة بين الطبقة السياسية، فإن الضحية الأولى لهذا الترتيب ستكون حصة العراق في السوق النفطية حيث يواجه منافسة شرسة من إيران والمملكة العربية السعودية.
الواقع أن برنامج الإصلاح المُقترَح طموح للغاية. ويهدف، وفقاً لصندوق النقد الدولي، إلى تحقيق إنفاق يتماشى مع إنخفاض أسعار النفط العالمية، وتعزيز الإدارة المالية العامة، والحد من الفساد، وهي مشاكل لم تنجح أيٌّ من الحكومات المتعاقبة في العراق في معالجتها، أو على الأقل حاولت أن تعالجها.
ويأتي هذا القرض الذي يمتد على فترة ثلاث سنوات في أعقاب قرض آخر منحه صندوق النقد الدولي إلى العراق بقيمة 1.24 مليار دولار في العام 2015 تحت غطاء آلية التمويل السريع. ومن المتوقع أيضاً أن يفتح ذلك الباب أمام بغداد لمزيد من التمويل الخارجي، والذي، وفقاً لبعض التقديرات، قد يصل إلى 10 مليارات دولار أخرى.
وهناك العديد من المحاذير في الصفقة. وأحد هذه العوامل هو أن العراق يجب أن يدفع جميع المتأخرات المستحقة لشركات النفط العالمية بحلول نهاية العام مع الإستمرار بعدم إضافة أي ديون جديدة مع تلك الشركات حتى يبدأ البرنامج. وتُدفع تلك المتأخرات من طريق تخصيص عدد معيَّن من براميل النفط المُخصّصة للتصدير كل شهر لمطوّري مختلف حقول النفط.
منذ بداية العام 2016، خصص العراق حوالي 236 مليون برميل من النفط الخام أو نحو 30 في المئة من إجمالي صادراته النفطية إلى نهاية آب (أغسطس) لمدفوعات شركات النفط العالمية. وعلى أساس متوسط سعر النفط العراقي في السوق، فقد بلغت قيمة إجمالي براميل النفط المُباعة نحو 7.7 مليارات دولار. وقد ذهبت الحصة الأكبر من هذا المبلغ إلى دفع متأخرات شركات النفط العالمية للعام 2015. وبالنسبة إلى العام 2016، فقد وضعت وزارة النفط العراقية موازنة الإنفاق الكلية لجميع حقول النفط التي يجري تطويرها من قبل شركات النفط العالمية بحدود 9.5 مليارات دولار. وهذا سوف يساعد على الحفاظ على الانتاج تقريباً في مستوياته الحالية، ولكن ليس توسيعه بشكل كبير. ولكن كيف يتوقّع صندوق النقد الدولي من العراق تسوية جميع المتأخرات قبل بداية البرنامج، وزيادة الإنفاق لتسريع تطوير حقول النفط لتوليد المزيد من العائدات، في الوقت الذي يطلب منه عدم إضافة أي ديون جديدة، يبقى لغزاً.
من ناحية أخرى، إن شروط العقود ال11 التي وقّعها العراق مع شركات النفط العالمية منذ العام 2009 لتطوير حقول النفط في جنوب البلاد تتطلب من الوزارة التسديد كل ثلاثة أشهر، جميع التكاليف التي تكبدتها الشركات، بالإضافة إلى رسوم على كل برميل تنتجه.
عندما كانت أسعار النفط مُرتفعة، فإن تخصيص البراميل لم يكن يشكّل قضية. بسعر 100 دولار للبرميل على مؤشر خام البرنت، كانت كمية 500,000 برميل من النفط الخام العراقي المُجهَّزة للتصدير كافية لسداد 1.5 مليار دولار شهرياً لشركات النفط العالمية. وكان الخام المُنتًج المتبقي كافياً لتوليد الإيرادات لتلبية إحتياجات الموازنة العراقية. وللحفاظ على هذا المعدل من الدفعات عندما وصل سعر النفط إلى 30 دولاراً للبرميل، كان ينبغي على العراق تخصيص ثلاثة أضعاف أكثر من تلك الكمية حيث باتت تشكّل أكثر من 50 في المئة من إجمالي صادرات البلاد النفطية، والتي تمثّل ما يقرب من 90 في المئة من عائداتها في الموازنة. وكانت لدى العراق كميات أقل من النفط للتصدير بسعر أقل، وبالتالي توليد إيرادات أقل وأقل. في أوائل هذا العام، عندما عبرت أسعار خام البرنت عتبة ال30 دولاراً، جلب النفط الخام العراقي سعراً بلغ 22 دولاراً و23 دولاراً للبرميل في كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) على التوالي.
في العامين 2014 و2015، بلغ متوسط صادرات العراق 3 ملايين برميل يومياً. وهذا العام، بلغ متوسط الصادرات حتى الآن 3,250,000 برميل يومياً من المرافيء الجنوبية. وقد توقفت الصادرات من الشمال لأكثر من عام بسبب الخلافات مع حكومة إقليم كردستان حول تقاسم العائدات والمخصصات من الموازنة الإتحادية.
على الرغم من أن أسعار النفط قد إرتفعت بشكل طفيف في الأشهر الأخيرة، دافعةً سعر الخام العراقي إلى ما يقرب من 40 دولاراً للبرميل، فإن الحفاظ على أو زيادة مخصصات شركات النفط العالمية أدى بالفعل إلى أول الضحايا: المشترون التقليديون من العراق أو أولئك الذين يشترون النفط العراقي الخام بعقود سنوية.
في السنوات الأخيرة، أخذت “سومو”، شركة تسويق النفط العراقية الرسمية، تغازل الشركات الآسيوية من طريق تقديم إلتزامات إضافية للمشترين في محاولة لتوسيع حصتها في حرب الحصص في السوق التي تشنّها ضد المملكة العربية السعودية وإيران. في العام 2016، إرتفعت عقود مخصصاتها السنوية بأكثر من 11 في المئة عن العام 2015، مع حصول السوق الآسيوية على تخصيص 18 في المئة من النفط الخام أكثر من العام الماضي.
وكانت المملكة العربية السعودية المستفيدة الرئيسية من العقوبات التي فُرِضت في السنوات الماضية، لأول مرة ضد العراق ثم على صادرات النفط الإيرانية. وفي وقت يعرف الطلب على نفط “أوبك” إنخفاضاً نتيجة للموارد غير التقليدية الجديدة التي يجري تطويرها خارج المنظمة، فقد إندلعت حرب شرسة بين الدول الثلاث المتنافسة للدفاع عن توسيع حصتها في السوق، مع تصدر آسيا وجهة التودد.
ويتوقع معظم الخبراء أن تبقى أسعار النفط حول عتبة ال50 دولاراً للبرميل حتى 2017. كما من المتوقع أن يضيف العراق زيادات متواضعة، إن وجدت، لإنتاجه وصادراته النفطية في 2017-2018. من خلال إجبار بغداد على الضغط على عملائها العاديين لتوسيع النفقات في القطاع النفطي، مع الحفاظ على دفع إلتزاماتها لشركات النفط العالمية حتى الآن، فإن شروط صندوق النقد الدولي تهدّد بإعادة العراق إلى الأيام المظلمة عندما أدى التشكيك في قدرته على الوفاء بإلتزاماته بالمشترين، وخصوصاً أصحاب العقود، إلى التعامل مع الخام العراقي كنفط الملاذ الأخير.
إن المعضلة التي يواجهها العراق هي أن زيادة إنتاج نفطه من خلال زيادة الاستثمار في قطاع النفط من المسلَّم به أنه يولّد المزيد من العائدات. ولكن لكي يكون قادراً على سداد شركات النفط العالمية في الوقت المحدد من دون مزيد من الضرر للموازنة وفقدان حصته في السوق، فيجب فرض قيود على كيفية إدارة العراق لموارده المالية.
إن جواب صندوق النقد الدولي عن هذه المعضلة يكمن في مجموعة من الإصلاحات الإقتصادية: جمع أفضل للضرائب والجمارك، والحد من النفقات والعجز، وفرض ضريبة الدخل على الأجور وفوائد كبار المسؤولين، وإعادة هيكلة الموازنة لوقف التوظيف، وهكذا …
في نظام سياسي، حيث منذ العام 2003، تأسّس على عدم الكفاءة والفساد ونظام راسخ من المحسوبية، فإن هذا الأمر هو مهمة مستحيلة. وهذا ينطبق على الغالبية المطلقة من السلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية.
إن الموازنة الإتحادية هي مثال على ذلك. فهي تُرسَط و تُصمَّم من طريق مخصصات بسيطة للجهات الحكومية؛ الوزارات ومجالس المحافظات، والهيئات الحكومية، والتي تُعتبَر كلها إقطاعيات لمختلف الأحزاب السياسية. وتجري مناقشة الموازنة والتصويت عليها لكي تصبح قانوناً في برلمان حيث القاعدة فيه هي الإفلات من العقاب الذي يُمنَح للنواب وقادتهم السياسيين. إن حسابات الدولة النهائية، عندما تُقدَّم بعد سنوات عدة من إستحقاقها، يتم إغلاقها والموافقة عليها بالتصويت لكن من دون تدقيق مهني.
إن النظر إليها من خلال منظور حقيقة واقع البلد، فإن إجراءات وشروط صندوق البنك الدولي تبدو أكثر مثل سياسة “مُرقّعة” ومخلوطة لإصلاح أعراض النظام السياسي المُختَل في العراق، بدلاً من تحويل النظام نفسه لتمكينه من تنفيذ الإصلاحات الإقتصادية التي هو بأمس الحاجة إليها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى