عندما يقاوم المجتمع اللبناني سياسييه

بيروت – رئيف عمرو

معظم اللبنانيين لم يسمعوا بالمظاهرات الأخيرة التي حصلت في بيروت والتي قام بها أفراد من المجتمع المدني الذين إجتمعوا في إطار مبادرة تجمع “لبنان الإنسان”. وقد تجمهر نحو 200 منهم مرتين قرب البرلمان لمطالبة النواب بالقيام بواجبهم الدستوري وإنتخاب رئيس للبلاد.
إن لبنان بلا رئيس للجمهورية منذ أكثر من عامين، والأعداد الصغيرة التي عبَّأها تجمع “لبنان الإنسان”، الذي أسسه المحامي شبلي ملاط ومجموعة من االشخصيات التي تشاركه التفكير، من غير المرجح أن يغيّر ذلك. ولكن ما تُظهِره هذه المبادرة وتؤكده هو أن المجتمع المدني اللبناني، مع محدوديته، على قيد الحياة وبصحة جيدة في بلد حيث غالبية الأمور والأشياء ليست على ما يرام.
واحدٌ من مواطن الضعف في لبنان هو أيضاً قوة كبيرة: مجتمعه، في نواح كثيرة، هو أقوى من الدولة. بالنسبة إلى المنتقدين فقد برز هذا في الطبيعة الطائفية للمجتمع، حيث الطوائف الدينية هي أكثر فعالية من أي شيء ينشأ تحت راية الدولة.
قد يكون ذلك صحيحاً، ولكن هناك أيضاً مزايا في إنفصال وتوزع السلطة والعمل في المجتمع. لقد أدى ذلك إلى بنية إجتماعية أكثر مرونة حيث أنه عندما فشلت الدولة في تحمّل مسؤولياتها كان المجتمع بشكل روتيني يملأ الفراغ.
لذلك، على سبيل المثال، إن التحديات التي تسحق المجتمعات التي تعتمد مركزية الدولة في أماكن أخرى – مثل أزمة اللاجئين السوريين أو حتى الحرب الأهلية اللبنانية بين عامي 1975 و1990 – إستطاع المجتمع الطائفي في لبنان، وإن كان بشكل ناقص، إدارتها ومواجهتها. وهذا يحدث عادة إلى أن يتحسّن الوضع وتعيد الحلول التوافقية فرض سلطة الدولة.
الفسحة الممنوحة من الدولة إلى المجتمع هي أحد الأسباب الذي يوضّح القدرة الكبيرة التي يتمتع بها المجتمع المدني اللبناني من أجل خلق مبادرات مستقلة – سياسية، إجتماعية، أو غيرها. كثيرة منها ربما كانت فاشلة، ولكن ليست كلها، وهي متأصّلة في مجتمع حيث أن شرفاً للمواطنين، بل من واجبهم، أن يفكروا خارج نطاق مؤسسات الدولة.
وكان من الأمثلة على ذلك القرار الذي إتّخذته مجموعة من نشطاء المجتمع المدني لخوض الإنتخابات البلدية في بيروت هذا العام. لقد شكّل الناشطون قائمة إنتخابية تُدعى “بيروت مدينتي”، وذلك إحتجاجاً على الطريقة التي أُديرت بها العاصمة اللبنانية في السنوات الأخيرة، حيث أن مجلسها البلدي تهيمن عليه التعيينات السياسية.
في حين أن القائمة لم تفز في الإنتخابات، فقد حصلت على عدد كبير ملحوظ من الأصوات. لقد أظهر هذا الأمر بأنه كان هناك تعاطف مع المرشحين الذين ليسوا هم في “جيوب” الطبقة السياسية، والذين كانوا سيستخدمون نصرهم لتحسين بيروت، وليس نهبها.
وكانت نتائج الإنتخابات إحراجاً لقائمة الإئتلاف الفائزة برعاية رئيس الوزراء السابق سعد الحريري. ومع ذلك، فإنها أظهرت أيضاً أن على المجتمع المدني، وخصوصاً عند تناول القضايا السياسية، أن يفكّر أكثر في تحويل مشاريعه إلى نجاح سياسي، وليس الخروج على الدوام خاسراً نبيلاً.
ما تعلَّمَته جماعات المجتمع المدني هو أنه من الأفضل في كثير من الأحيان التركيز على أهداف قابلة للتحقيق، بدلاً من محاولة تغيير أسس النظام السياسي. إن الطبقة السياسية عادة تتّحِد لحماية إمتيازاتها، ولكنها تبدو مُحرَجة عندما تتصدّى لأهداف مُحدَّدة معقولة.
هناك مثال حدث في العام 1992 عندما أجرى لبنان أول إنتخابات برلمانية بعد الحرب. لقد إنضمت يومها مجموعة من الأفراد معاً لإنشاء هيئة مراقبة للإنتخابات عُرِفت بإسم الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الإنتخابات. رفض وزير الداخلية في ذلك الوقت الإعتراف بها، ولكن قانون الجمعيات يُحدّد أن هذا الإعتراف لا لزوم له. لذا بدأت الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الإنتخابات مهمتها رغم ذلك. ولا تزال تعمل اليوم، بعدما إستغلّت خرقاً قانونياً لم يتوقعه السياسيون.
إحدى المفارقات في المجتمع اللبناني هو أنه على الرغم من أنه يتميّز بالطائفية، فإن المبادرات المدنية تفتح باب التعاون بين الطوائف. وتضمنت قائمة “بيروت مدينتي” مسيحيين ومسلمين، وكذلك الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الإنتخابات، كما مبادرة تجمع “لبنان الإنسان”. وعلى الرغم من أن الدولة تميل إلى تعزيز التقسيم الطائفي الذي يعمل من خلال زعماء الطوائف، فإن المجتمع المدني، وخصوصاً في المشاريع السياسية، إعتبر النهج غير الطائفي حيوياً للنجاح.
في العالم العربي يبدو هامش المناورة الذي يُمنَح للمجتمع المدني مختلفاً من بلد إلى آخر. مع ذلك، تميل الأنظمة العربية عموماً إلى إعتبار المبادرات السياسية المُنبثقة عن المجتمع كتهديد. بالنسبة إلى اللبنانيين، مع ذلك، لأن مجتمعهم يسمح القيام بذلك، فإن المشاركة في الحياة السياسية أمر طبيعي تقريباً. وعلاوة على ذلك، بسبب طبيعة نشر وتوزيع السلطة، فإن قدرة الدولة في بلد الأرز على قمع الجماعات المستقلة تبقى محدودة.
هذا لا يعني أن لبنان قد إجتاز إختبار الديموقراطية الكاملة كالنموذج الغربي. مع ذلك، في الفسحات التي أنشاتها الدولة والنخبة السياسية المُنقسمة في معظم الأحيان، فإن المجتمع عمل بحرية أكبر مما هو عليه الوضع في معظم البلدان العربية الأخرى. وقد لا يكون النظام السياسي في لبنان مثالياً، لكنه تعدّدي بعمق، حيث يمكن للمبادرات المدنية أن تتعزّز وتنتعش.
وهذا هو السبب بأن مبادرة تجمع “لبنان الإنسان” وغيرها من الإجراءات المماثلة ينبغي أخذها على محمل الجد. قد لا يمكنها تغيير لبنان، لكنها تؤكد على أن المجتمع اللبناني يرفض التنازل عن حقوقه للسياسيين – رسالة تخريبية مُستغرَبة في معظم أنحاء المنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى