هل مات إيلي صليبي أم هو حي؟!

بقلم جوزف قرداحي

هل يتنبأ الشاعر أو الأديب بموته؟!
كثيرون من الشعراء والأدباء تنبّأوا بموتهم، ووصفوا اللحظات التي سيواجهون بها حتفهم وصفاً دقيقاً إلى حدّ الإدهاش. منهم من رأى في الموت حياة، ومنهم من تغزّل بالموت تغزّل الحبيب، ومنهم من تحدّاه لا خوفاً، ولكن شجاعة وعزة نفس وبطولة.
الأخَوَان عاصي ومنصور الرحباني وصفا الموت بصوت السيدة فيروز وصفاً ملحمياً رائعاً في أوبريت “زنوبيا ملكة تدمر” حين حاصرها الرومان وفاوضوا على إستسلامها، ولكنها رفضت الإنكسار، رافعةً كأس الموت تشرب نخبه:
“يا موت يا زهرة البطولي
يا تاج الحياة و عطية المحبي الخجولي
يا موت هدّيني بإيدي
خدني عا طرقات مفروشي بالنوم وسعيدي
ويا أهالي تدمر خمس سنين من العمر عشتوها أحرار
إلكن سما وهوية وللي سكن الحرية اليوم إنهار ما بقى تقدر روما تسلب منّو الحرية
كاسك يا موت”.
وقال الشاعر الهندي العظيم طاغور في الموت:
“أعلم في النهاية المعتمة من يوم ما، ستودعني الشمس وداعها الأخير، في حين تعبر الماشية، وينفخ الرعاة في ناياتهم، أيتها الحياة أريد أن أسألك قبل وداعي الأخير، لماذا نادتني الأرض الى أحضانها؟!
لماذا لا يخاف الشعراء والأدباء الموت؟! هل هم أبطال رواياتهم، أم هم خمرة الحياة التي إنتشت من صخب الوجود والخلق والإبداع، فأغواهم الموت؟! نجيب محفوظ تحدّى من حاولوا قتله، وكتب المزيد لتحريضهم، وكأنه كان يستحضر ملاك الموت لملاقاته، إلى درجة أنه كثيراً ما رأى أمه الميتة في أحلامه، تحضنه وتدعوه إلى عالمها، حيث لا وجع ولا خوف ولا شقاء. ولا ننسى أيضاً الكاتب والأديب المصري الراحل يوسف السباعي الذي نعى نفسه في روايته الشهيرة “طائر بين المحيطين” التي صدرت في العام 1971: “ماذا سيكون تأثير الموت علي؟ وعلى الآخرين؟ لا شيء. ستنشر الصحافة نبأ “إغتيالي”، كخبر مثير ليس لأني متُّ، بل لأن موتي سيقترن بحادثة مثيرة”. وقد تحققت نبوءة السباعي في العام 1977 حين اغتاله متطرفون من جماعة “الإخوان المسلمين” عقاباً على مشاركته الرئيس أنور السادات في رحلته الشهيرة إلى القدس في العام 1977.
لكن أغرب نبوءة بموته هو ما كتبه الأديب والإعلامي الراحل إيلي صليبي في مجلة “أسواق العرب”، يومها وصف الموت وصفاً وكأنه على معرفة وخبرة به. أو كأنه مات من قبل ثم عاد الى الحياة آلاف المرات، أو كأنه إنبعاث يعيشه الفلاسفة الوجدانيون الباحثون المجتهدون عن أسرار الكون والحياة. أوَلَم يعش جبران ونيتشه وكانت وروسو وهيغو وأنسي الحاج ونزار قباني والجوهري والسياب والنيهوم ومحمود درويش وعاصي ومنصور الرحباني وغيرهم العشرات هاجس الموت وما بعد الموت من أسرار. ربما من هنا دأب الراحل الكبير إيلي صليبي على تصريف وضخ كل مخزونه الفلسفي دفعة واحدة في آخر سنواته، وكأنه كان يسابق الزمن، منذ كتابه “عودة النبي” الذي أثار حوله جدلية واسعة ولا سيما أنه كُتب بنفس جبراني إلى درجة أنه إختلط على متابعيه أن من يكتب هو جبران خليل جبران مُستخدِماً يد وروح إيلي صليبي، أو أن إيلي صليبي وقد تقمّص روح جبران فأعطاه مفتاح الحكمة التي تحلّى بها النبي الذي غيّر وجه الأدب الفلسفي، ونقل لغته الجامدة من ثلاجة الموتى إلى نار التطور والرشاقة والمرونة.
يصف الصليبي لحظات الموت الأخيرة أو ساعته الأخيرة، وصف العارف الخبير والمجرّب، فيقول:
“يزحف الصقيع من أخمص قدميك صعودا ً حتى سقف رأسك .
تصطك أسنانك من هلع ، ويرتجف بدنك من جزع .
تحاول إستئخار أجلك بثرثرات وهلوسات في نخاغك الشوكي .
أما لسانك فيبدأ بالإنسحاب تراجعا ً إلى نفق بلعومك .
وتتمتم شفتاك ما يشبه الصلاة المبعثرة الكلمات .
وتملأ منخاريْك رائحة عفنك المنتظر”.
وهو وصف يعجز حتى العائد من الموت عن إستعادته، الأمر الذي فتح أكثر من علامة إستفهام؟! ترى هل مات إيلي صليبي من قبل، من دون أن يدرك اهل بيته بالأمر؟ هل أوصله فضول الصحافي الذي يعيش فيه، أن يتسلل إلى عالم الموت الخفي ليتلصص على غرفه الواسعة الأرجاء ويتعرف عليه عن قرب، علّه يصادقه فيخفف من وطأة حضوره.
هل الأدباء يموتون؟!
أغلب الظن أن أديباً مثل إيلي صليبي يصادق الموت قبل أن يموت، بالتأكيد لا يموت. إنه ينبعث أبداً ودائماً مع كل فكرة قالها، مع كل كلمة خطها، ومع كل قارىء ردّد كلماته، من الآن وحتى إنقضاء الدهر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى