وداعاً بتول

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

شمالُها التل، وجنوبها مغارات منس، وحاضرها مرهون ببراميل البارود ومستقبلها مُهدَّد بفخاخ “داعش”. وأهلها لا يخرجون إلّا إلى الصلاة أو الموت.
قدرٌ فرضه التاريخ على قرية أصرّت على إشعال فتيل الثورة في جيوب القمح ورؤوس الزيتون حتى الحرية. وتوضّأت بالدماء والحزن شهوراً كئيبة. “تلمنس” لم تعد هي القرية التي خلّدها ياقوت الحموي في معجم البلدان، ولا التي ذكرها ستيفن نسيمان في كتابه “الحروب الصليبية”. اليوم، توشك “تلمنس” أن تصبح أثراً بعدما كانت عيناً تروي التاريخ بمداد من فضة.
أما بتول، فهي قصة لم يكتب لها قناصو التاريخ أن تكتمل. وعلى بعد خطوات من دار لهوها وآلاف الأميال من فدادين حريتها، سقطت طفلة منس بين اللحى، ولم تعرف حين أتاها الموت من كل مكان بأي ذنب قتلت. كانت عيناها بعمق الحلم ونبضاتها بحجم الوطن، وحين تناثرت أشلاؤها حول أمها، ولطخت دماؤها واجهة البيت، لم يخرج صالح طفل الرابعة لمرافقتها كالعادة، وإكتفى بنظرة واجمة ترفض أن تفهم ما يجري. أما محمد، الذي كان يلوك حروفه الأولى بين شفتيه، فإكتفى بصرخة بائسة وهو يصوّب عينيه نحو فاطمة التي كانت تعي أكثر مما ينبغي رغم أن ربيعها السابع لم يكد يكتمل.
لم تكن وئام تعلم أنها تحمل بين يديها لغم الموت وهي تلقي بكيس القمامة في الحاوية، لكنها كانت تدرك في أعماقها أن المتربّصين بأحلامهم الصغيرة لن يتركوا العصافير تنمو في أعشاش منس، ولن يتركوا الأحلام تخرج من مخادع الحرائر أمثالها. كانت خطوات بتول أسرع من خطوات أمها نحو الموت، وكأن الطفلة التي خرجت من مخاضها ليلة القدر، أبت أن تترعرع في مجتمع يتربص به الموت في كل مكان.
ذهبت بتول، وخلفت دمية صغيرة وأقلاماً وأوراقاً لم تنقش في بياضها أي حرف، وكأنها لم ترد أن تترك في البيت ما يذكّر ذويها بأناملها الصغيرة وأصابعها المعقوفة حول الرصاص. كان حلم بتول أن تلتحق بمدرسة الحسان بن ثابت لتتعلم وتعرف سر إختيار خفافيش الظلام لحيِّها الفقير وقريتها البائسة. كانت تحلم بيوم لا تسمع فيه أزيز رصاص أو صوت نائحة. لكنها سقطت في فخاخ الكراهية قبل أن تتمكن من فرد أرياشها فوق قبة مسجد القرية المهدّم.
سقطت بتول كما سقطت قبة حسان، وكما سقط رأس تمثال أبي العلاء في قرية المعرّة على بعد خمسة كيلومترات غرباً. والذي أسقط الرأس الحي هو الذي أسقط رأس الصنم. لا أعرف كيف كان رد فعل عمر صالح عندما عاد من شركة الأدوية البيطرية التي يعمل بها ليبحث عن بقايا طفلته في الجوار، لكنني أعرف أنه سيندب حظه العاثر الذي أوقعه بين فريقين تصالحا على قتاله حتى الرمق الأخير.
حتماً أدرك عمر، وهو يحمل في كيس أسود ما تناثر من جسد صغيرته أن السلامة ليست في الحياد، وأن القتال فريضة وطن والقتل فرض عين. لا أعرف كيف حدثت عمر نفسه وهو يضع أشلاء طفلته في حفرة صغيرة إلى جوار بيت لم يعد آمنا كالوطن، لكنه حتما أدرك وهو يهيل التراب فوق دمائها المتخثرة أن يدها الصغيرة لن ترتفع لتزيل ما علق بلحيته الكثة من غبار. ستظل ضحكة بتول تملأ حقول القمح والعدس، وتعشش في أشجار التين والعنب والرمان، وتتسلّق تل منس وذاكرة جدها المنفية في الإمارات.
ستظل صورتها مُعلّقة فوق جدار حسين ثلاج تستدر دموعه الأبية كلما خلد إلى النوم أو أخذته سنة.
وتظل سوريا مشنوقة فوق حبال الكراهية التي حاكها جلادون لا يخشون في الحمق لومة لائم أتوا من كل فج عميق ليمارسوا طقوس الهمجية في الفصل الأخير من رواية كان بطلها أسوأ خليفة.

• كاتب وأديب وصحافي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى