الصراع بين خامنئي ورفسنجاني يتجدّد لإختيار المرشد الأعلى المُقبل

بعدما إنتهت مرحلتا الإنتخابات لمجلس خبراء القيادة ومجلس النواب في إيران، بدأت مرحلة أكثر أهمية وهي الإستعداد لإختيار مرشد أعلى للثورة يخلف آية الله خامنئي الذي يبدو أنه تقدم في السن وحالته الصحية ليست على ما يرام، وكما قال أخيراً:” أنا لن أعيش إلى الأبد”.

آية الله علي خامنئي: يريد أن يختار خليفته
آية الله علي خامنئي: يريد أن يختار خليفته

طهران – هشام الجعفري

في 10 آذار (مارس) الفائت، إجتمع المُرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي مع مجموعة من رجال الدين من “مجلس خبراء القيادة”، الذي يُعتبر الهيئة الأساسية في النظام الإيراني الذي عَهَد إليه الدستور مهمة تعيين وعزل المرشد الأعلى للثورة في الجمهورية الإسلامية. قبل بضعة أيام، في 26 شباط (فبراير) شهدت البلاد إنتخابات أعضاء هذا المجلس حيث فقد فيها مرشحون متشدّدون بارزون من أعضائه مقاعدهم وإرتفع عدد المعتدلين فيه ثلاث مرات تقريباً. في صباح ذلك اليوم، كان يدور في ذهن خامنئي المُفعَم بالحيوية والجالس في بهو جدرانه مطلية باللون الأبيض شيئاً محدّداً: إنه يريد التحدث عن خليفته.
إن المجلس، الذي تأسس في العام 1983 ويتكوّن من 88 من كبار رجال الدين الشيعة، أُنشىء مع مهمتين رئيسيتين في الإعتبار: الإشراف على أداء المُرشد الأعلى وإختيار خليفته. في ذلك الصباح، عقدوا إجتماعهم لمناقشة الموضوع الأخير. وقد توجّه خامنئي البالغ من العمر 77 عاماً إلى الحضور، المؤلف من أقوى مجموعة من رجال الدين في البلاد، بمن فيهم أولئك الذين أعيد إنتخابهم لفترة ثانية مدتها ثماني سنوات. لن أعيش إلى الأبد، قال، ولكن “المرشد الأعلى يجب أن يكون ثورياً”. وناشد خامنئي الحاضرين “لا تكونوا عفيفي النفس وخجولين” عندما يتعلق الأمر بإختيار الرجل المقبل.
الملاحظة المحمّلة بالكثير من المعاني، والتلميح إلى أن بعض الشخصيات التي إجتمعت تفتقر إلى الحماس الثوري، كانت طلقة موجّهة إلى الرجل الجالس إلى جانب خامنئي، آية الله علي أكبر رفسنجاني البالغ 81 عاماً. الرجلان صديقان وخصمان لأكثر من نصف قرن، وقد عقدا صفقة تاريخية في العام 1989، خلال آخر مرة جرت فيها عملية الخلافة في إيران، لدفع إنتخاب خامنئي للمنصب الأعلى في البلاد.
ولكن اليوم تغيرت الأوضاع، لقد صار لكلٍّ منهما رؤية مختلفة للغاية بالنسبة إلى إيران، وهناك أمل ضئيل بتحقيق صفقة أخرى بينهما. بعبارة أخرى، قد تكون هناك لعبة شد حبل لم يسبق لها مثيل في المستقبل القريب. خامنئي ورفسنجاني، اللذان يرمزان إلى الوضع القائم ضد الوعود بالإصلاح، يرى كل واحد منهما عملية الخلافة بإعتبارها منعطفاً محورياً لبلدهم وإرثاً فردياً لكل منهما.

صديقان وخصمان

يمكن إعتبار تصريحات خامنئي في آذار (مارس) الفائت إستهلالاً لصراع يختمر على السلطة. لم تشهد الجمهورية الإسلامية عملية الخلافة إلّا مرة واحدة من قبل، في العام 1989، عندما أصبح خامنئي المُرشد الأعلى بعد وفاة آية الله روح الله الخميني. والتي تحوّلت إلى عملية طويلة للغاية، إمتدت نحو خمس سنوات، حيث إنطوت على الكثير من المؤامرات والمنعطفات والتقلبات التي انتهت إلى تشكيل السياسات الإيرانية في الداخل والخارج. ومن المرجح أن تكون عملية الخلافة الحالية حتى محصورة أكثر بالمنافسة الشخصية والفئوية داخل النظام.
لا يوجد رجلان آخران يعرفان عن هذه العملية أكثر من خامنئي ورفسنجاني. الإثنان كانا في أوائل الأربعينات عندما صعدا إلى أعلى المناصب من خلال علاقة شخصية وثيقة مع الخميني. بدأا كمتعاونين ومؤسسين للحزب الجمهوري الإسلامي، العربة التي بحلول العام 1981، ركزت السلطة السياسية في أيدي رجال الدين في أعقاب سقوط الشاه العلماني محمد رضا بهلوي، في شباط (فبراير) 1979.
تتلاقى شراكة خامنئي ورفسنجاني على منصة واحدة رئيسية هي: تحييد المنافسين المُشترَكين. في السنوات القليلة الأولى من الثورة، قاد الرجلان جهوداً لتهميش، وطرد، وحتى قتل المعارضة السياسية التي وقفت في طريقهما. من بين أمور أخرى، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1979، هندسا سقوط أول حكومة معتدلة في مرحلة ما بعد الشاه التي كان يترأسها مهدي بازركان.
في وقت لاحق، في صيف 1981، تواطأ خامنئي ورفسنجاني على إسقاط أول رئيس للجمهورية الإسلامية المُنتخب شعبياً، أبو الحسن بني صدر. فقد شهّرا به بأنه ليبرالي يعمل على إبقاء إيران في الفلك الاميركي. وقد خططا معاً ونفذا مسرحية التصويت على الإتهام في البرلمان التي دفعت بني صدر إلى الفرار من البلاد.
في تلك السنوات، كانت علاقة الرجلين تتوازن في حقيقة أن كلاهما يفتقر إلى المؤهلات الدينية، وهذا ما يعني أن المنصب الأعلى في البلاد، الذي كان إسمياً محجوزاً ومحفوظاً على أساس الأقدمية في المؤسسة الدينية الشيعية، كان محرّماً عليهما. وعامل التوازن الآخر كان الخميني نفسه، الذي أدخل عمداً التنافس داخل النظام الإسلامي، حيث وضع خامنئي ورفسنجاني ضد بعضهما البعض للحفاظ على نفسه في قمة السلطة. لكن خامنئي ورفسنجاني ما لبثا أن وصلا في وقت سريع إلى مسار تصادمي.
في الفترة التي سبقت وفاة الخميني في حزيران (يونيو) 1989، رأى رفسنجاني صلاحياته تتوسع. كرئيس للبرلمان منذ العام 1980، حوّل الجسم التشريعي إلى مركز رئيسي للسلطة. وجاء ذلك على حساب الرئاسة، التي كان يحتلها خامنئي بعد تشرين الأول (أكتوبر) 1981.
في تشرين الأول (أكتوبر) 1984، عندما إنتشرت الشائعات حول صحة الخميني المريض، سعى خامنئي إلى تأمين المزيد من الصلاحيات لرئاسة الجمهورية في الوقت الذي كان الرجل العجوز لا يزال على قيد الحياة. خامنئي قبل كل شيء أراد أن يصبح نائب القائد العام للقوات المسلحة للخميني، وهو دور قوي في وقت كانت إيران في حرب مع العراق ولكن المنصب كان يحتله رفسنجاني ولم يكن على وشك التنازل عنه والإستسلام.
فشلت ضربة خامنئي ضد رفسنجاني، وكانت إهانة شخصية له أمام الرأي العام من غير المرجح أن تُمحى وتُزال من عقله. وقد لجأ الإثنان إلى إنتقاد أحدهما الآخر في وسائل الإعلام المملوكة للدولة، مما إضطر الخميني إلى التدخل لتهدئة الوضع. وفي آب (أغسطس) 1985، أُذِلّ خامنئي مرة أخرى عندما، كرئيس للجمهورية، لم يتمكّن من إختيار رئيس لوزرائه وفرض عليه مير حسين موسوي، حليف رفسنجاني، لولاية ثانية. وضع خامنئي اللوم والمسؤولية في ذلك على رفسنجاني، وفي خطاب ألقاه في البرلمان، قال بشكل واضح أن موسوي لم يكن إختياره وأنه غير قادر على فعل أي شيء حيال ذلك. لكن الخميني، الذي يهمس رفسنجاني في أذنه بصوت أعلى، صرّح بأن إختيار أي شخص غير موسوي رئيساً للوزراء سيكون “بمثابة خيانة للإسلام”.
قد تكون المنافسة بين خامنئي ورفسنجاني ظلت بعيدة من الجمهور، لكنها لم تذهب بعيداً. وتُظهِر برقيات رُفِعت عنها السرية أنه حتى وكالات الاستخبارات الغربية كانت تضع هذا الصراع على راداراتها، وكانت تراقب عن كثب فيما كان كلٌّ من خامنئي ورفسنجاني يسعى إلى حشد الدعم في صفوف القوات المسلحة الإيرانية إذا تطلّب الصراع على خلافة الخميني أن يُخاض في الشوارع.

سياسة مريحة

على الرغم من كل هذا، مع تراجع صحة الخميني في أوائل العام 1989، أحيا خامنئي ورفسنجاني الشراكة ذات المنفعة المتبادلة التي عملت بشكل جيد مباشرة بعد سقوط الشاه. وسوف يندم رفسنجاني في وقت لاحق ويأسف لهذا القرار، ولكن كان هو الذي دبّر ورتّب لرجل الدين المتوسط الرتبة خامنئي، البالغ من العمر 49 عاماً، خلافة الخميني. كان ذلك مثالاً للنفعية السياسية العليا.
في جلسة مُسجّلة على شريط فيديو في مجلس الخبراء، إدّعى رفسنجاني أن الخميني قال له “لا تنظر إلى أبعد من خامنئي” في إختيار المرشد الأعلى المقبل، وبالتالي أمّن وضمن المنصب الأعلى في البلاد لخامنئي. حتى يومنا هذا، لا يوجد سوى كلمة رفسنجاني لإثبات هذا الادعاء، لكنه فاز في اليوم نفسه. وكجزء من الإتفاقية، إنتقل رفسنجاني إلى القصر الرئاسي، ولكن فقط بعدما تم تعزيز سلطات الرئيس بشكل كبير، وهي تدابير تم سنّها رسمياً عبر إستفتاء شعبي على الدستور في تموز (يوليو) 1989.
على مدى السنوات الثماني المقبلة كرئيس للبلاد، يمكن القول أن رفسنجاني كان الرجل الأقوى في السياسة الإيرانية. فقد وضع مساراً جديداً للسياسة الخارجية، بما في ذلك محاولات تسعى إلى نوع من الإنفراج مع الولايات المتحدة ودول عربية منافسة لطهران، بما في ذلك المملكة العربية السعودية، ولم يواجَه بمعارضة تُذكر من خامنئي. محلياً، وضع خططاً ل”حقبة إعادة الإعمار”، وهي برنامج إقتصادي شمل تحرير التجارة وتمويل العديد من المشاريع الكبرى من خلال الإقتراض الدولي. مرة أخرى، وافق خامنئي على معظمها على الرغم من أنه لا يزال من غير المؤكد إذا كان ذلك بسبب عدم وجود خيار آخر.
لكن خامنئي لم يكتفِ بكونه مجرد مرشد أعلى رمزي. أراد أن يكون خميني آخر قوياً صاحب سلطات واسعة. في وقت لاحق بعد سبعة وعشرين عاماً، يمكن لخامنئي أن يدّعي أنه نجح في المناورة على حليفه السابق وخصمه اللاحق، لكنه لم يتمكن من إطفاء نفوذ رفسنجاني أو الكثير من الأسرار التي يهدد دائماً بأنه سيكشفها.
ليس فقط لأنه مفتاح رئيسي وقوة مهمة في مجلس الخبراء، ولكن رفسنجاني الداهية حوّل نفسه الى عرّاب الفصائل الإصلاحية والمعتدلة في الجمهورية الإسلامية. إنه يدعو علناً نفسه الداعم الرئيسي للحكومة المعتدلة لحسن روحاني، وكان كثيراً ما يقحم نفسه في معارك ضد معارضي الرئيس المعتدل المتشددين. في هذه المعارك، يعتقد انه هو الفائز؛ الواقع أن شعور رفسنجاني بالثقة حول المستقبل كان في عرض حي على الصفحة الأولى ل”شرق” (Shargh) في 3 أيار (مايو) الحالي، إحدى أكبر الصحف الإصلاحية. لقد إقتبست ببساطة من رفسنجاني قوله: “الآن أستطيع أن أموت بسلام”.
ولكن هل يمكنه؟ خطاب خامنئي في 10 آذار (مارس) ووخز أولئك الذين يفتقرون إلى وثائق تفويض ثورية يشير إلى مخاوفه بشأن قدرة رفسنجاني على هندسة خلافته، وبالطريقة عينها التي جلب فيها رفسنجاني خامنئي إلى أعلى سلطة في البلاد في العام 1989. وأطلق خامنئي الطلقة الأولى. قبل الإنتخابات الأخيرة لمجلس الخبراء في شباط (فبراير) الفائت، كان رفسنجاني وحلفاؤه أطلقوا حملة لترشيح حفيد آية الله الخميني، حسن الخميني (43 عاماً)، الذي يميل إلى الإصلاحييين. ورُفِض ترشيحه من قبل مجلس صيانة الدستور، الذي من مهامه الإشراف علی الإنتخابات، والموافقة علی المرشحين لرئاسة الجمهورية ومجلس الخبراء، ومجلس الشورى، وضمان التوافق بين التشريعات التي يقرها البرلمان مع الدستور. وهو مسؤول أمام خامنئي. وكانت الأسباب التي أُعطيت لرفض حسن الخميني بالكاد تكون مُقنعة — بما في ذلك عمره، على الرغم من أن مرشحين أصغر سناً قد تم إختيارهم — ولكن قبل الخميني الصغير وحلفاؤه القرار على مضض. ذلك أن رفسنجاني، ودائرته، لا يريدان إعطاء الذرائع لإطلاق الاعتداءات عليهم من قبل خامنئي والأجهزة الأمنية، بما في ذلك الحرس الثوري، التي يسيطر عليها. في التسامح مع محاولة الخميني الصغير الفاشلة لدخول مجلس الخبراء فقد فقدت شبكة رفسنجاني جولة لكن الصراع على المنصب ما زال مشتعلاً.
من وجهة نظر هذين الرجلين المُسنين من النظام، إن عملية الخلافة هي أكثر بكثير من السياسة، رغم ذلك، بما فيها ضمان أن أسرهما وأقرب حلفائهما السياسيين سيكونون محميين من العقاب بمجرد أن يغادرا الساحة السياسية.
شيء واحد هو مؤكد، التوقيت — إيران ستنضم تدريجاً إلى الاقتصاد العالمي وتعيد تأسيس علاقاتها مع الغرب بعد سنوات من العداء — يضيف أهمية أكبر للصراع على السلطة الحالية. هذه المرحلة سوف تحدّد الإتجاه الإيديولوجي للجمهورية الإسلامية، ويمكنها أن تحوّل إيران سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً نظراً إلى وجهات النظر العالمية المختلفة للمعسكرين السياسيين المهيمنين في البلاد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى