لغز “أوراق بنما” يحيّر زعماء العالم

بقلم الدكتور عبد الله ناصر الدين*

خلال الأيام القليلة الماضية أخرجت فضيحة “أوراق بنما” حسابات عدة خارجية إلى دائرة الضوء، وحملت معها تداعيات عالمية بما في ذلك ردود فعل قوية حول كميات هائلة من المال وضعت في حسابات يملكها قادة ومسؤولون وشخصيات بارزة في العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم. ركّزت هذه القضية على جانبين الأول سياسي يرتبط بتسمية زعماء ورجال أعمال ما قد يكون له بطبيعة الحال عواقب سياسية، أما الجانب الآخر فهو إقتصادي يرتبط بالهجمة الدولية على تبييض الأموال و التهرب الضريبي و القضاء على الملاذات الضريبية. فقد تم الإفراج عن أكثر من 11 مليون وثيقة إلى وسائل الإعلام من قبل “مصدر مجهول” عمل بجد لإستخراج الرموز والوصول إلى الوثائق. وهذا هو أكبر تسرب في التاريخ من حيث المحتويات القوية والمتينة وحجم الأموال. إن تداخل الجانبين السياسي والإقتصادي، إضافةً إلى حجم التسريبات غير المسبوق، يضع شكوكاً جدية حول الجهات التي تقف خلف الإختراق وأغراضه الإقتصادية.من هنا يبرز سؤال حول الهدف من هذه التسريبات ونشرها في هذه المرحلة من الزمن؟
في الشق السياسي، تؤكد الوثائق على التلاعب المالي للكثير من القادة في العالم من طريق خلق شركات وهمية في بنما أو غيرها من ملاذات دول “الأوفشور” للتهرب من الضرائب، و إخفاء مصدر أموالهم وتفادي إستجوابهم بشأن شرعيتها. لقد قيل الكثير عن وكالات الاستخبارات العالمية التي يزعم أنها استهدفت بعض الشخصيات والقيادات الدولية للابتزاز و لتحقيق اغراض سياسية عبر تشويه صورتهم أمام الرأي العالمي والداخل. و يمكن إيضاً كما يشير بعض المحللين أن الكثير من الوثائق غير المعلنة حتى اليوم والتي يمكن إعلانها، أرغمت هذه الوثائق على صفقات و تنازلات قد وقعت بالفعل. و لكن مما لا شك فيه، أنه تم غض الطرف عن بعض التلاعبات المالية العالمية ما يثير تكهنات كثيرة حول أغراضها السياسية ، ولكن كما هو معروف، عندما تتضارب المصالح، فإن الملفات السرية تخرج الى العلن. إحدى الملفات التي كانت لها عواقب مؤذية هو ملف الفيفا.
وتستمر المناقشات حول تسريبات بنما في أوروبا، وبدأت التحقيقات للتأكد ما إذا كان أيٌّ من المسؤولين الواردة أسماؤهم في الوثائق تم إستغلالهم. أما ردة فعل الجمهور فكان متفاوتاً بين بلدٍ وآخر. طالب بعض الناس بإستقالة القادة السياسيين بينما طالب آخرون بمزيد من التحقيق. ففي إيسلندا مثلاً فقد أدى الغضب الشعبي إلى إستقالة رئيس الوزراء. وللأسف، تضمنت التسريبات أسماء بعض القادة العرب الذين تعيش شعوبهم في فقر و يأس هم بأشد الحاجة إلى الدعم والتنمية. ولكن يلفتنا هنا تماهي معظم الاعلام العربي مع التسريبات و تجنب تسليط الضوء على تورط القادة العرب بدلاً من وضع هؤلاء تحت ضغوطات عارمة علّهم ينظرون بجدية أكبر إلى مصلحة شعوبهم وشبابهم الذين يتوقع أن يصلوا إلى ما يقارب المئة مليون (الفئة العمرية بين ١٦-٢٥) مع معدل بطالة يصل إلى ٣٠٪، و الذي يستخدم وقوداً للنار بدلاً أن يكون ثروةً ترقي إقتصادياً بمفاهيمها الحضارية و يجعل من العالم العربي في واقعٍ معيبٍ و مخجل.
أما في الشق الإقتصادي، فتكشف وثائق بنما مدى عدم المساواة في العالم. في العام ٢٠١٥ قدر الخبير الاقتصادي غبريال زكمان في كتابه “الثروة المخفية للأمم” أن أكثر من 7.5 تريليونات دولار في العالم يتم اخفاؤها في الملاذات الضريبية الخارجية ما يشكل ٨٪ من الثروة المالية في العالم. في حين يتم التصريح ببعض هذه الأمول، نحو ٨٠٪ منها أو ما يعادل ٦ تريليونات دولار لا يخضع للضرائب على الإطلاق. و الحقيقة أن أن هذا التهرب يفاقم الفجوة العالمية الواسعة في الثروة والدخل بين الأغنياء والفقراء. إن إخفاء مبالغ ضخمة تهرباً من الضرائب يسهّل على الأغنياء أن يبقوا على تفوقهم المادي ويحرم مساعدة الفقراء من خلال السياسات الضريبية التي تعمل على إرساء المساواة في المجتمع. و الأكثر أهمية أن حسابات الأفشور (OFFSHORE) تزيد العبء الضريبي على الأشخاص الذين لا يتهربون من الضريبة، ذلك لأنهم يدفعون ضرائب أعلى للتعويض عن الأموال المهربة و التي كان يجب أن تدفع كضرائب على الأغنياء. إن مواجهة الارتفاع في عدم المساواة نأخذه على محمل الجد، نحن بحاجة إلى جعل هذه الأشكال من التهرب الضريبي أقل بكثير.
إن الحجم الهائل للتهرب الضريبي والذي تؤكد عليه ملفات بنما يشكل لغزاً إقتصادياً وسياسياً محيراً في الإقتصاد العالمي و يحتاج إلى خطوات جذرية نحو الشفافية من أجل وقف التهرب الضريبي. أخيراً، فطالما يلعب المال دوراً رئيسياً في السياسة والعلاقات الدولية فإن هذه الموجة من التسريبات ليست الأولى ولن تكون الأخيرة.

• خبير إقتصادي، أستاذ الإقتصاد في كلية إدارة الأعمال في جامعة بيروت العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى