لماذا ينبغي على الصين ألّا تخفّض قيمة عملتها

يختلف خبراء الإقتصاد حول قرار الصين الأخير بربط عملتها الوطنية بسلة عملات أجنبية بدلاً من الدولار. وكثير منهم يرى الخطوة جيدة، حيث ستمنحها حرية أكثر لتخفيض الرنمينبي (اليوان) لإعادة الإنتعاش إلى إقتصادها. ولكن إلى أي حد يصح هذا الكلام؟

صندوق النقد الدولي: نصح الصين بالإختفاظ بتريليونين على الأقل لمواجهة المشاكل المالية
صندوق النقد الدولي: نصح الصين بالإختفاظ بتريليونين على الأقل لمواجهة المشاكل المالية

بكين – عبد السلام فريد

مع تباطؤ إقتصادها، وهبوط سوق أوراقها المالية، والمدّ المتصاعد للمال المغادر للبلاد، فإن الصين تريد تخفيض وإضعاف عملتها، الرنمينبي (اليوان). على الرغم من تكرار – وعلى مستوى عال جداً – التعهّد بالمحافظة على قيمته، فإن بكين سمحت بهدوء هبوط “اليوان” 5 في المئة مقابل الدولار الأميركي في العام 2015. ويرى العديد من الخبراء في قرارها الذي إتخذته في كانون الاول (ديسمبر) الفائت، بتبديل ربط اليوان بالدولار الى ربطه بسلة عملات، بأنه باب خلفي لطريق يقود إلى الإعتماد على ضعف العملات الأخرى مقابل الدولار. في الوقت نفسه، تفيد “جوقة” متزايدة من الإقتصاديين، وصناديق التحوّط، وصناع السياسة بأنه يجب على الصين “الذهاب مع السوق” وترك عملتها تهبط لإنقاذ إقتصادها المتعثّر. “يتعين على الصين وقف مقاومة خفض الرنمينبي، لأن تقدير قيمة عملتها مبالغ فيه”، غرّد الإقتصادي جيفري ساكس على “تويتر”. وفي منتصف كانون الثاني (يناير) الفائت، في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، سويسرا، وافق رئيس “غولدمان ساكس”، غاري كوهن، على أن ليس لدى الصين سوى خيار صغير: “قد يكون عليها أن تفعل شيئاً في الأشهر الستة المقبلة … هل أعتقد أنها سوف تنتهي إلى تخفيض قيمة عملتها؟ أنا لا أعتقد ذلك”.
المشكلة هي أن “الجوقة” على خطأ.
إن “يواناً” أضعف لا يؤدي إلى إصلاح المشاكل في الإقتصاد الصيني التي تسببت بهروب رأس المال؛ إنه لن يؤدي إلّا إلى تفاقمها أكثر. إن الإصلاح وإعادة التوازن فقط – أي الإبتعاد من الإعتماد على الصادرات والإستثمار لدفع النمو، والتوجه نحو إقتصاد قائم على إقتصاد إستهلاكي أكثر توازناً – يمكنهما وضع الإقتصاد الصيني على مساره الصحيح. إن سحب بكين من إحتياطاتها بالعملة الأجنبية المتضخمّة للدفاع عن الرنمينبي – بدلاً من السماح له بالهبوط – هو أحد العناصر المساعدة على إحداث إعادة التوازن هذه.
إن الإقتصاديين يصفون الحل الخاطئ للصين لأنهم معتادون على التعامل مع مجموعة مختلفة تماماً من المشاكل. البلدان التي تعاني من “أزمة العملة” – الضغط المتواصل على عملتها لخفض قيمتها – هي عادة ما تكون مُدينة تدير عجزاً تجارياً. في حال تعثرت صادراتها، أو إرتفعت أسعار الواردات، أو جف التمويل الأجنبي لتغطية الفجوة في تجارتها، فسوف تعرف نقصاً في العملة الأجنبية الصعبة التي تحتاجها لدفع فواتيرها. إن كمية العملة المحلية التي يُكلّفها الحصول على العملات الأجنبية (الآن شحيحة) ترتفع، مما يجعل الواردات أكثر تكلفة والبضائع المصنوعة محلياً أكثر قدرة على المنافسة في الداخل والخارج. إن التحوّل في سعر الصرف يرسل إشارة تصحيحية إلى جميع أنحاء الإقتصاد – يستهلك أقل ويحفظ وينتج أكثر – الأمر الذي يدفع المدفوعات إلى العودة إلى التوازن. إن أزمة العملة في الهند في العام 1991، وغارة المموّل جورج سوروس على الجنيه البريطاني في العام 1992، و”أزمة تكيلا” في المكسيك في العام 1994، والأزمة المالية في آسيا في العام 1997، وعجز الأرجنتين عن سداد ديونها في العام 2001، كلها أزمات تتلاءم وتتوافق مع هذا النمط المألوف.
يمكن للبنك المركزي في البلاد درء هذا التعديل المؤلم في كثير من الأحيان، لمرة على الأقل، ببيع إحتياطاته من العملة الأجنبية أو من طريق رفع أسعار الفائدة في محاولة لجذب المزيد من رؤوس الأموال. ولكن إذا كان المواطنون يعتقدون أن صناع القرار يفتقرون إلى الوسائل أو إلى العزم على الإستمرار في الخط، فإنهم سوف يسارعون إلى تغيير عملتهم الوطنية قبل أن تنخفض قيمتها – مكثّفين بذلك الضغوط على تلك العملة. هذا هو السبب في أن معظم الاقتصاديين ينصح بالسماح بسقوط العملة – أو حتى بالخروج من الوضع قبل حدوثه من خلال تخفيض قيمة العملة بشكل كبير، الأمر الذي يجعل الناس يتوقعون بأنها سترتفع بعد ذلك – لتجنب الوقوع في تعديل أصعب مما كان يجب أن يكون.
الصين مختلفة. مثل اليابان في ثمانينات القرن الفائت، لقد كدّست بلاد ماوتسي تونغ مستوى عال غير مستقر من الدين الداخلي، ولكن بالنسبة إلى بقية العالم، فإنها دولة دائنة مع فائض تجاري. إن مشكلتها لا تكمن بالإعتماد على التمويل الخارجي لدعم الإستهلاك المحلي، ولكن بالإعتماد المفرط على الطلب الخارجي لدعم الإنتاج المحلي والعائد على الإستثمار. الإصلاح هو أن تكون العملة أقوى، وليس أضعف، حيث تعزز القدرة الشرائية للمستهلكين المحليين وفى الوقت نفسه تثبط ولا تشجع بناء المزيد من الطاقة الزائدة.
الواقع أن المسألة ليست ما إذا كانت الصين تواجه أزمة إقتصادية، ولكن أي نوع من الأزمات. إن الأزمات التي تواجهها الدول الدائنة لها أصول مختلفة، وتفرض قيوداً مختلفة، ولها حلول مختلفة جذرياً عن تلك البلدان المدينة. عندما عانت اليابان تباطؤاً حاداً في النمو بدءاً من العام 1990، رافقه إنهيار سوق العقارات وسوق الأوراق المالية، ولكنها لم تواجه أزمة عملة؛ في الواقع، لقد إرتفع الين من حيث القيمة.
ومع ذلك، فإن اليوان تعرض لضغط هبوطي قوي في الأشهر الأخيرة. إن الضغوط الحالية ليست إشارة إلى إعادة التوازن – التي جاءت في شكل إرتفاع بنسبة 36 في المئة في قيمة الرنمينبي بالنسبة إلى الدولار منذ العام 2005 – ولكن نتيجة لفشل بكين الثابت في الإصغاء لتلك الإشارة، من خلال إغراق الإقتصاد الصيني بالإئتمان الرخيص، وإقامة حواجز تجارية خفية، ودعم الصناعات الخاسرة. الآن، تسبب هبوط أسعار الأصول وعوائد الإستثمار، جنباً إلى جنب مع الشكوك حول إتساق سياسة إستجابة بكين، بهروب رأس المال من البلاد. وعلى الرغم من فائض تجاري قياسي، فإن الصين تنزف نقدياً – مع ما يقدر بنحو تريليون دولار من رأس المال تدفقت إلى الخارج في العام 2015.
إن الإستجابة من طريق السماح لليوان بالضعف أكثر ستكون لها نتائج عكسية على مستويات متعددة. بعيدةً من الحدّ من تدفقات رأس المال إلى الخارج، فإن توقعات هبوط اليوان سوف تكثّفها، مما يدفع العملة إلى أسفل حتى أبعد من ذلك. إذا كانت التوقعات هي المشكلة الرئيسية، عندها فإن إنخفاضاً كبيراً مفاجئاً في القيمة قد يستبق وينزع فتيلها. ولكن لا إنخفاض تدريجاً ولا تخفيض مفاجئاً من شأنه أن يحل السبب الرئيسي لهروب رأس المال من الصين الذي يكمن في فشل بكين في إعادة التوازن إلى إقتصادها. في الواقع، إن إضعاف العملة أكثر، من خلال تقويض القدرة الشرائية للمستهلكين في البلاد وتعزيز أشكال غير مستدامة للنمو – بعبارة أخرى، دعم المدّخرين والإنتاج على حساب القوة الشرائية للمستهلك – من شأنهما أن يؤديان إلى تفاقم المشكلة.
حتى أن فوائد “يوان” أضعف من الممكن أن تُثبت أنها إحتمال وهمي. إن بلداناً أخرى سوف تتعرّض بسرعة إلى ضغوط لخفض قيمة عملاتها، ماحيةً كل ميزة سعت بكين إلى كسبها. في العام 2015، أدى الدولار الأميركي الأقوى – مقابل اليورو والين، ومجموعة من عملات الأسواق الناشئة – إلى خفض ملحوظ في نمو وأرباح الشركات في الولايات المتحدة. إن جولة أخرى تنافسية في مجال تخفيض قيمة العملة، تطلقها الصين، يمكن أن تدفع بأميركا إلى الركود. إن إضعاف اليوان لن يفعل شيئاً يُذكر لتعزيز صادرات الصين، إذا غرقت واحدة من أكبر أسواق الصين الخارجية.
البديل – الذي تقوم به الصين، على الأقل بالنسبة إلى الجزء الأكبر – هو دعم اليوان من خلال الإعتماد على مخزون البلاد الهائل من إحتياطات العملات الأجنبية. على مدى العقدين الماضيين، راكم البنك المركزي الصيني ما يقرب من 4 تريليونات دولار من طريق التدخل لمنع الرنمينبي من الارتفاع. منذ حزيران (يونيو) 2014، باع 663 مليار دولار للدفاع عن سعر الصرف.
على هذا الأساس رفع النقاد ثلاثة إعتراضات رئيسية لدعم اليوان. لكن كلهم غابت عنهم “العلامة”.
أولاً، يقولون بأن السحب من الإحتياطات يؤدي إلى تشديد السياسة النقدية للصين وتضييقها، في الوقت الذي ينبغي تخفيفها. عندما يبيع البنك المركزي العملة الأجنبية لتلبية طلبات الدفع، فإنه يشتري اليوان في المقابل، مقلّصاً المعروض من النقود المحلية. في حين أنه يمكن “تعقيم” هذا التأثير من طريق حقن المزيد من اليوان، يدّعي النقاد بأن الصين التي تعاني من إنكماش في أسعار المنتجين على مدى السنوات الثلاث الماضية يجب أن تضخ أموالاً في الإقتصاد، وليس تركه يجف.
لقد كانوا على خطأ. إن هبوط أسعار سلع المصانع في الصين هو نتيجة إفراط ضخم في القدرة أو الطاقة، غذّته سنوات من الإئتمان الكثير. إن منح المزيد من الإئتمان – من دون، أولاً، تأسيس إصلاحات جدية – سوف يقود المال إلى التدفق إما إلى المضاربة، والمزيد من الطاقة الزائدة، والمزيد من الإنكماش، أو أنه سوف يؤدي إلى مغادرة المزيد من رأس المال البلاد. إن الطريقة الوحيدة للصين لكي تعالج الإنكماش تكمن في إعادة موازنة إقتصادها، من خلال دعم القوة الشرائية للمستهلك وكبح جماح الإفراط في الإستثمار. إن إستخدام الإحتياطات لدعم اليوان يساعد تلك العملية.
ثانياً، يقول النقاد أنه بالدفاع عن الرنمينبي، فإن الصين “تضيِّع” موارد ثمينة، عندما يجب أن تترك لقوى السوق أن تقرر سعر الصرف. وهم يشيرون بالتوازي إلى جهود الصين الخرقاء والقصيرة النظر لدعم سوق أوراقها المالية.
إن فكرة ترك العمل والقرار للسوق التي تعني السماح لتعويم اليوان تتمتع بجاذبية سطحية قوية. ولكن على عكس سوق الأسهم، والصلب، أو ربطات الأحذية، فإن البنوك المركزية تدير السوق بعملتها الخاصة. إن الطلب على عملة معينة يعتمد على السوق، ولكن البنك المركزي يقرر كمية التزويد. على إفتراض وجود التدفق الحر للتجارة والإستثمار، فإن البنك المركزي يمكنه تحديد سعر الفائدة والسماح للسوق بتحديد سعر الصرف، أو أنه يمكنه أن يحدّد سعر الصرف والسماح للسوق بتحديد سعر الفائدة. لا هذا النهج ولا ذاك جوهرياً هو المنحى الأفضل للسوق أكثر من الآخر.
إن إحتياطات الصين البالغة 4 تريليونات دولار من العملات الأجنبية أبقت اليوان رخيصاً وأدّت إلى إختلالات عالمية ضخمة. إن جلوس بكين على تلك المقتنيات من النقد الأجنبي والسماح بسقوط اليوان للحفاظ على تلك الإختلالات سيكون حكماً صادراً من قبل صانعي السياسات الخاطئة، وليس من السوق.
ويتفق العديد من الإقتصاديين على أن قيمة اليوان مبالغ فيها الآن. والذي فشل النقاد الذين ناقشوا هذه النقطة في التعرف إليه هو أن الدفاع عن عملة مبالغ في قيمتها من طريق السحب من إحتياطاتها هي الآلية التي يتم من خلالها تحويل المدّخرات المفرطة إلى مزيد من القوة الشرائية للمستهلك. إن هذه الإحتياطات لم “تضيع”؛ لقد تمت إعادتها إلى الإقتصاد الصيني، حيث دعمت مستويات المعيشة في وجه التكيف الإقتصادي الموجع على خلاف ذلك، أو أُعيد توجيهها نحو إستثمارات أفضل في الخارج. إن “كومة” ضخمة من إحتياطات العملات الأجنبية لا طائل منها لأي غرض آخر غير توجيه إقتصاد الصين في إتجاه أكثر إستدامة، والآن، يتعيّن على الصين إستخدامها لهذا الغرض.
الإعتراض الثالث هو أن الدفاع عن الرنمينبي أمر لا يمكن تحمّله لأنه في مرحلة ما سوف تنفد إحتياطات النقد الأجنبي من الصين. إن الوتيرة التي تتبعها الصين في السحب من إحتياطاتها – في المتوسط 37 مليار دولار شهرياً على مدى ال18 شهراً الماضية – جعلت بعض الناس مذعورين. ولكن مع بقاء ما يقرب من 3.3 تريليونات دولار، فإن بكين يمكنها أن تحافظ على بيع إحتياطاتها على وتيرة مرتين أكثر على مدى أربع سنوات قبل أن تنفد. ويشير صندوق النقد الدولي إلى أن الصين “يجب أن” تحتفظ ب2 تريليونين دولار أو نحو ذلك لأغراض إحترازية، وهذا سيكون كافياً لبكين للسحب عند الحاجة – مثل الآن. وسيشير المنتقدون إلى أن إحتياطات الصين ليست كلها سائلة تماماً، وأنه إذا أراد الجميع في الصين بيع اليوان من أجل الحصول على الدولار، فإن التريليونات من الدولارات في إحتياطات العملات الأجنبية مقابل ذلك يمكن أن تنفد في ومضة. كل هذا صحيح جداً، ولكن كما هو الحال مع تشغيل أي بنك، ما يهم هو ليس القدرة على دفع جميع المطالبات، ولكن القدرة على دفع ما يكفي لإستعادة الثقة.
إن كلمة “ثقة”، تصيب قلب هذه المسألة.
ما تواجه الصين مع هروب رأس المال ليست أزمة مدفوعات ولكن أزمة ثقة، واحدة لا يمكن حلّها إلّا من خلال إعادة توازن إقتصادها. إن دعم اليوان يرسل إشارات الأسعار المُناسِبة لتسهيل هذه الخطوة في حين يكسبها الوقت لإجراء مزيد من الإصلاحات الجوهرية لفتح المسار غير المتوازن للنمو.
بطبيعة الحال، من الممكن أن تفرّط بكين بهذه الفرصة. أو أنه بالفعل فات الأوان، حيث لا شيء في هذه المرحلة يؤدي إلى إستعادة الثقة، وجميع الأموال تهرب ببساطة. ولكن في حين أن الصين قد تواجه خطر الفشل في دفاعها عن اليوان، فإن عدم قيامها بذلك عملياً يضمن الفشل. وإذا كانت بكين تفتقر إلى الموارد للحفاظ على الخط، فإن صندوق النقد الدولي والبنوك المركزية الأخرى يمكن ان تزيد من قوتها “النارية” – ودرء ضغط المضاربة – من طريق إقراض الصين بالعملة الصعبة أو مقايضتها باليوان. إن شراء الوقت للصين لإعادة التوازن قد يكون جيدا لصالحها، مقارنة مع العواقب الكارثية العالمية للتخفيض التنافسي لقيمة العملة.
إن الخبراء الذين يدعون إلى “يوان” أضعف هم مثل الأطباء الذين تعوّدوا على رؤية المرضى الذين يعانون من الجلطات الدموية ويعالجونهم بنجاح بوصف علاج سيولة الدم. ومن ثم للمصابين بالنعور (نزف) – يصفون سيولة الدم أيضاً. الأمراض مختلفة، والدواء خطأ. يحتاج الإقتصاديون الذين يعالجون الصين المريضة مثل أزمة ديون أخرى في الأسواق الناشئة إلى إعادة النظر في المريض وإعادة النظر بالوصفة الطبية لسعر الصرف، قبل أن ينتهوا إلى إيقاع ضرر كبير وليس إلى حل وعلاج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى