أيّ لبنان نريد؟

بقلم البروفسور جورج نعمه*

قامت خصوصية لبنان منذ الإستقلال على جعل وظيفته الإقتصادية تكرّس دوره كوسيط في التجارة والخدمات بين الدول العربية والدول المتقدمة، وقد أتى ذلك على حساب قطاعاته الإنتاجية وقدرته التنافسية، وعلى حساب إرساء شبكة أمان إجتماعي تؤمّن العيش الكريم لمواطنيه، وتقلّص الفروقات بين طبقاته الإجتماعية. وقد إستفاد بلد الأرز من عوامل عدة داخلية وخارجية سمحت له الإستفادة من دوره الإقتصادي الخدماتي، كان أبرزها إستقراره الداخلي، وتميّز قطاعه المصرفي، وخيارات إقتصادية مغلقة تميّزت بها دول منطقة الشرق الأوسط.
قامت السلطات اللبنانية في فترة ما بعد الحرب بالمبالغة في الإعتماد حصرياً على توجّه ريعي إستنزف المالية العامة للدولة عبر الإستدانة العامة وكسر قدرة اللبنانيين الشرائية، مع إعتماد نظام ضريبي مجحف بحق الطبقات المتوسطة والفقيرة، مرتكز على الإستهلاك بدل الإستثمار، على الإستيراد بدل التصدير، على الرسوم ومشتقاتها بدل الضرائب على الدخل والأرباح، على مكافحة التضخّم بدل التصدّي للبطالة، على الخدمات العامة المنخفضة الفعالية بدل الإصلاح المالي والإداري وعلى القطاع المصرفي بدل التوازن بين كافة القطاعات الإقتصادية. إن تقييم هذه المراحل السابقة ونتائجها الهشّة والخطرة تدفعنا الى إعلاء الصوت سائلين أنفسنا قبل مساءلة الغير: ماذا فعلنا لتدارك الازمات؟ لماذا لم نحاسب؟ لماذا لم نخطط؟ لماذا لم نقيّم؟ والأهم من كل ذلك،أي لبنان نريد؟
لبنان الخدمات الذي همّش الصناعة والزراعة وإستباح لقمة عيش المواطنين. لبنان الخدمات المرتكز حصرياً على السياحة في منطقة يمكن وصفها بأي شيء سوى بالإستقرار والسلام والإزدهار؛ لبنان الدين العام وعجز الموازنات العامة وغيابها على مدى السنين؛ لبنان الكهرباء التي إستنزفت المالية العامة بعجزها المتراكم والسنوي من دون تغزية في التيار ومن دون قدرة على رفع وتحسين إنتاج الطاقة؛ لبنان الضمان الإجتماعي الذي يترك مواطنيه من دون غطاء صحي حتى ولو دفعوا كل متوجّباتهم وإشتراكاتهم؛ لبنان النفايات المُنفلشة في الشوارع والتي تُلزّم بشكل مركزيّ تنفيعاً للشركات الخاصة؛ لبنان الحرمان للمناطق وغياب المشاريع التنموية؛ لبنان الهدر في النفقات العامة من دون حسيب أو رقيب؛ لبنان مشاريع الموازنات من دون الإقرار ومن دون قطع الحسابات؛ لبنان التهرّب الضريبي؛ لبنان الحصانة النيابية والوزارية؛ ولبنان الرسوم والضرائب المجحفة…
لائحة تطول ولا تنتهي، تستدعي الرحمة على إقتصاد بلد كان يوماً منارة الشرق ورمز التقدم ووجهة السائح. ألم يحن الوقت بعد لكي نقرر أي لبنان نريد؟ ألم يتوجَّب على كل لبنانيّ أن يحاسب من أساء الأمانة وإنحدر بالوطن الى مستويات لامست التخلف والإنحطاط؟ خصوصاً أن الخيار الذي إعتمد في السياسات الإقتصادية والمالية والنقدية، لم يُدعَّم بنظرة إجتماعية ولا حتى أخلاقية تساعد على درء النتائج السيئة التي كانت مُتوقَّعة. الدولة اللبنانية بكافة مؤسساتها لم تنجح في بلورة رؤية إقتصادية وإجتماعية تبنى عليها أولوية المواطن، وخطط عمل تؤمّن للإقتصاد الوطني برّ أمان يصل اليه بعد حين. فاللبنانيون كافة وأجيالهم المقبلة يدفعون وسيدفعون كلفة تخبط المؤسسات وكلفة خياراتهم الخاطئة وسيسألهم أولادهم وأحفادهم عن لبنان الذي أرادوه ضعيفاً، هشّاً، متآكلاً من الداخل ومتفلتاً من الحساب والإصلاح.
فليكن الخيار لنا اليوم قبل الغد ولنقرر وجهة إقتصادنا لتأمين تنمية مستدامة لأولادنا. اليوم ما زلنا قادرين على تصويب المنحى الإقتصادي والوطني لبلدنا؛ اليوم نحن مسؤولون أمام التاريخ والإنسان والجغرافيا. غدنا سيكون مظلماً إن لم نتدارك الإنحلال الحاصل، وإن لم نقدم وبحزم مطلق على تغيير القدر المرير الذي رُسِم لنا. فلنقلها بالفم الملآن، ولنصرخ عالياً في وجه الجميع: نريد لبنان الإقتصاد الحصين والمنيع، ونرفض لبنان الخدمات الممزّق والمترهّل؛ لبنان الغنيّ بموارده الطبيعية من مياه وأرض خصبة؛ لبنان الغنيّ بموارده البشرية المتعلّمة والمثقفة؛ لبنان الصناعة والزراعة؛ لبنان الصادرات والتوازن التجاري؛ لبنان الخلّاق لفرص عمل تأوي أبناءه وتردعهم عن الهجرة القسرية؛ لبنان الخدمات العامة الفعالة؛ لبنان التنمية المستدامة والمتوازنة بين المناطق والشرائح كافة؛ لبنان الإستثمارات الخارجية والنمو الإقتصادي الحقيقي والفعلي؛ ولبنان الحاضنة الاجتماعية لكل أبنائه والذي يؤمّن لهم العيش الكريم وينشلهم من الفقر والجوع والعوز. إختاروا لبنان الكرامة لتعيشوا بكرامة، وإختاروا لبنان الإنتاج لينعكس نعماً وإستمرارية لأولادكم وأحفادكم.
فلنضع معاً السياسات الإقتصادية من مالية الى نقدية في المجهر، ولنتحلّى بالقدوة لا بالصبر لنغيّر واقعاً مريراً دامت سيطرته طويلاً ولنرفض التجاوزات والفساد والترهّل والإنحلال، فالتغيير يكمن في خياركم، والخيار لكم وحدكم، لبنان ينتظر فلا تخذلوه…

خبير إقتصادي، نائب رئيس الجامعة الأنطونية في لبنان وعميد كلية إدارة الأعمال فيها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى